من يتابع مقررات اجتماع بعبدا المالي، كما روّجت لها مصادر من هنا وهناك، يشعر بأنّ ما قبل الاجتماع ليس كما بعده، على مستوى الأزمة المالية في البلد. لكن الواقع غير ذلك تماماً، رغم وجود النية والارادة لدى كل المجتمعين لإحداث خرق في جدار الأزمة. وما بعد الاجتماع سيكون تماماً كما قبله.
حاول البعض، عن حُسن نية ربما، أو بهدف إضفاء طابع الأهمية على ما جرى في اجتماع بعبدا المالي، أن يروّج لقرارات تم الاتفاق عليها وسيبدأ تنفيذها قريباً، من أهمها:
أولاً – توحيد الاجراءات التي تتخذها المصارف حيال سقوف السحب النقدي، مع تحسن هذه الاجراءات لراحة الناس.
ثانياً – رفض إقرار مبدأ الـCapital controls.
ثالثاً – التأكيد على رفض اعتماد الـHaircut في معالجة الأزمة القائمة، وتأكيد حماية الودائع.
رابعاً – تخفيف القيود على التحاويل الى الخارج في ما يتعلق بأمور محددة لها علاقة بمساعدات عائلية، أو ما يتخذ طابع الضرورة القصوى.
خامساً – خفض اسعار الفوائد على الودائع والقروض بمقدار النصف تقريباً.
سادساً – تنفيذ تعميم مصرف لبنان لجهة إلزام المصارف بزيادة رساميلها الى 20%، حتى نهاية العام 2020. بما يعني جذب حوالى ملياري دولار قبل نهاية العام الجاري، وجلب مليارين آخرين خلال العام 2020.
سابعاً – رفع سقف ضمان الودائع من 5 ملايين الى 75 مليون ليرة.
هذه البنود، التي تمّ الترويج لها على أنها مقررات، لا تتعدّى كونها مجرد تمنيات لا أكثر ولا أقل. في الواقع، هذه التمنيات لم تأت من عدم، بل انها أفكار وآراء وتطلعات جرى التطرّق اليها في الاجتماع، من دون أن يتم الاتفاق على تنفيذ أي بند محدّد. ويمكن تقسيمها الى قسمين:
1- بنود ستتم مناقشتها لاحقاً بين حاكم مصرف لبنان وجمعية المصارف، ولا شيء مضموناً منذ الآن حول النتائج التي قد تخرج بها المناقشات، وهي ستتناول مسألة سقوف السحوبات النقدية، والتحويلات وأسعار الفوائد.
وبالمناسبة، لن يكون الخروج بمقررات واضحة حول هذه النقاط سهلاً، لأنّ مسألة سقوف السحب النقدي ترتبط بوضع السيولة في المصارف.
هذا الوضع يختلف بين مصرف وآخر، وهو ما يبرّر الاختلاف في تحديد هذه السقوف. أمّا بالنسبة الى التحويلات، فإنها مُطبّقة حالياً في ما خصّ الضرورات القصوى، لكنّ النقاشات ستتركّز على مسألة توسيع مروحة هذه التحويلات، لتشمل قطاعات إنتاجية مثل الصناعة.
هذا الامر سيحتاج الى دراسة معمّقة للاتفاق على تفاصيله وطرق تنفيذه. أمّا بالنسبة الى خفض اسعار الفوائد، فإن الأمر سيكون اكثر تعقيداً، ومن المستبعد ان يتم الاتفاق على الخطوة، من دون قَوننة الـCapital controls. كما انّ هذه الخطوة ترتبط بتعقيدات قد تصعب حلحلتها قبل الوصول الى مرحلة طلب اعادة جدولة الدين العام.
أما مسألة رفع سقف ضمان الودائع الى 75 مليون ليرة فهو قابل للبحث، طالما انّ تمويله يتم من خلال اقتطاع نسبة مئوية من مجموع الودائع.
ويشكّل هذا الامر نوعاً من الضمانة لصغار المودعين، وتنفيذه سيكون بمثابة تحميل الودائع الكبيرة مسؤولية حماية الودائع الصغيرة، على اعتبار انّ حوالى 8 آلاف حساب مصرفي من أصل حوالى مليوني حساب، يشكّلون نحو 80 في المئة من مجموع الودائع.
2- بنود لا تخضع للنقاشات حالياً، بل تهدف بطبيعتها الى محاولة طمأنة الاسواق والمودعين، وهي تلك المتعلقة بالـCapital controls والـHaircut.
هاتان المسألتان تحتاجان الى مزيد من التدقيق. إذ انّ الكلام عن رفض فرض ضوابط على حركة الرساميل يثير اللغط، لأنّ الضوابط تمّ وضعها فعلاً.
والجدل محصور مبدئياً، بين جدوى ومخاطر ممارسة الـCapital controls بقانون أو بدون قانون. وهناك رأي يفيد بأنّ مصرف لبنان لا يريد حالياً قوننة الضوابط، لأنّ ذلك سيؤدي الى ضغوطات اضافية من قبل المؤسسات المالية الدولية، وسيؤدي الى ضغوطات اكبر على اسعار سندات اليوروبوند في الاسواق العالمية، وكذلك سيجعل خفض تصنيف لبنان الائتماني أسرع بالنسبة الى وكالات التصنيف العالمية.
ولذلك، يفضّل ممارسة الضوابط ومنع خروج الرساميل بلا قانون، على أن يتم الانتقال الى قوننة الضوابط عندما يحين موعد طلب اعادة جدولة الديون، والبدء في تنفيذ خطة إنقاذ. وهذا الامر لن يبدأ قبل تشكيل الحكومة الجديدة.
أما بالنسبة الى طمأنة المودعين في شأن عدم حصول اقتطاعات من الودائع، والى سلامة ودائعهم، فإنّ هذا البند لا يتصل بقرار تتخذه السلطة. وبالتالي، لا قيمة حقيقية له قبل الوصول الى مرحلة طلب خطة إنقاذ. في ذلك الوقت بالذات، يمكن الكلام عن هذا الموضوع بواقعية وشفافية.
حالياً، لا يمكن الرهان على ما سيجري قبل تغيير المشهد السياسي على المستوى الحكومي. بعد ذلك لكل حادث حديث. لكن من الوجهة النظرية، هناك تعقيدات ظاهرية، منها انّ الأوراق اللبنانية انخفضت حوالى 40 الى 45% حالياً في الاسواق.
وهذا يعني انّ حملة هذه الاوراق، وغالبيتهم من المصارف ومصرف لبنان، خسروا هذه النسبة من اصل المال المستثمر في السندات، بما يوازي حوالى 15 الى 17 مليار دولار. فهل يمكن للمصارف أن تتحمّل هذه الخسارة؟ بالاضافة الى ذلك، قد تكون هناك خسائر ترتبط باقتطاعات محتملة على السندات في إطار خطة الانقاذ؟ فإذا كان حملة السندات عاجزين عن تحمّل هذه الخسارة المزدوجة، فمن هي الجهة التي ستتحمّل هذا العبء؟
أخيراً، ظهرت في الافق اليوم مسألة قانونية في موضوع اعادة جدولة الدين العام، ويجري الحديث عن ثغرة قد تعرقل خطط الدولة في المستقبل لطلب خطة إنقاذ. ومن خلال تجربتَي الارجنتين واليونان، قد يواجه لبنان مشكلة في إعادة جدولة ديونه من دون الاصطدام باعتراض صناديق تحوّط أجنبية تحمل نسبة ولو صغيرة من السندات الحكومية. إذ قد تلجأ هذه الصناديق الى رفع دعاوى لدى محاكم أميركية لمنع تنفيذ إعادة جدولة الدين، وتفرض على الدولة تسديد كامل السعر الاسمي للسندات. هذا الامر حصل مع الارجنتين التي استمر النزاع القانوني بينها وبين مؤسسة مالية لسنوات طويلة.
وكذلك واجهت اليونان، ولو بوتيرة أضعف المشكلة نفسها. إنطلاقاً من هذه الثغرات القانونية، عمد صندوق النقد الدولي في العام 2014 الى إدخال تعديلات على النصوص القانونية التي تحكم النزاعات في موضوع إعادة جدولة ديون الدول. وتمّ تعديل ما يُعرف بالـCAC لكي تصبح حركة الدول المُفلسة أسهل في فرض اعادة جدولة الديون.
وهناك من يقول انّ لبنان، مع قلّة من دول أخرى، لم يتّبع في إصدار سندات الدين هذه التعديلات، بما يعني انّ حملة السندات يستطيعون عرقلة طلب إعادة جدولة الدين العام، وسيكون ذلك بمثابة مشكلة اضافية.
وفي حال كان لبنان، وعلى عكس ما ذكرته احدى وكالات الانباء العالمية، التزم فعلاً بالنص الجديد لبنود الـ CAC (collective action clause)، فإنّ ذلك يعني انّ قسماً متبقياً من السندات التي صدرت قبل 2014 لا تزال تخضع للعقود القديمة، وستبقى المشكلة قائمة ولو بنسبة أقل.
في الخلاصة، المعالجة معقدة بطبيعة الحال، لكن الثمن الذي سيدفعه اللبنانيون للخروج من الأزمة يتحدّد بعامل الوقت الذي سيستغرقه الوصول الى مرحلة بدء الانقاذ، وبنوعية الحكومة التي ستتولى هذه المهمة.