بوتين يتذكر روزفلت وقوله المأثور “أينما ينتهك السلام، فإن العالم كله يصبح مهدداً بالأخطار”
سامي عمارة كاتب وصحافي
“روسيا سوف تتعاون مع المرشح الذي يثق فيه الناخب الأميركي” (رويترز)
في حملة محمومة تتصاعد حدة أوارها مع اقتراب الساعات الأخيرة من ماراثون الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتوالي الأنباء التي تقول بتقدم جو بايدن، تتزايد وتيرة حملات النقد والتجريح في حق المرشح الديمقراطي، في الوقت الذي تتراجع القنوات الرسمية عن الترويج لميولها تجاه دونالد ترمب الذي طالما اعتبرته موسكو “أهون الشرين” بالنسبة لروسيا في البيت الأبيض. وتحسباً لكل الاحتمالات ومنها ما كشفت عنه استطلاعات الرأي التي تضع بايدن في المقدمة، تحولت موسكو الرسمية إلى تأكيد ما سبق وأعلنه الرئيس فلاديمير بوتين حول “أن روسيا سوف تتعاون مع المرشح الذي يثق فيه الناخب الأميركي”.
وكانت موسكو تحولت خلال الأيام القليلة الماضية عما كانت دأبت عليه قبل ذلك حول ترجيحها لكفة ترمب، على اعتباره أنه الأقل خطراً على المصالح الروسية، إلا أنها عادت لتصحح بعض مسارات التغطيات الإعلامية والتعليقات حول هذا الشأن، على ضوء ما صار في حكم المؤكد، وبحسب تصريحات الكثيرين من المسؤولين في العاصمة الروسية، أن نتائج الانتخابات الأميركية لن تكون في مجملها في صالح روسيا، وإن اختلفت النسبة مع كل من المرشحين.
“التأرجح الواضح”
ويفسر “التأرجح الواضح”، الذي جنحت إليه الأوساط السياسية الروسية خلال الأيام القليلة الماضية، رغبة موسكو في استعادة توازنها بعد “سقوط” الكثير من أجهزتها الإعلامية في شرك الإفراط في تعاطفها غير المباشر مع ترمب، لكن بعيداً من أي تحول “صريح” صوب تأييد احتمالات فوز بايدن، وعكفت البرامج الحوارية التلفزيونية أكثر على دراسة أبعاد مواقف كل من المرشحين ترمب وبايدن، تجاه روسيا، بعيداً من “التنجيم” بما يمكن أن تسفر عنه نتائج هذا الماراثون الانتخابي. وفي هذا الصدد قال ديمتري سايمز مدير المركز الأميركي للمصالح الوطنية في تصريحاته إلى برنامج “أمسية مع سولوفيوف” المعروف بعلاقته الوثيقة بالكرملين، إن الضغط الأميركي لن يتوقف ضد روسيا بغض النظر عمن يمكن أن يفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية.
أما عن درجة هذه الضغوط ومدى تأثيرها في روسيا، فقال سايمز اليهودي الروسي الأصل الذي انتقل للإقامة في نيويورك في مطلع تسعينيات القرن الماضي، إن ذلك سوف يتوقف على كل من المرشحين وتاريخ علاقاته مع الشأن الروسي. ومضى ليقول إن ترمب، وعلى سبيل المثال، سيواصل في حال بقائه في البيت الأبيض ضغوطه على بلدان الاتحاد الأوروبي للحيلولة دون تعاونها مع روسيا، وبما يحول دون استكمال بناء خط الغاز “التيار الشمالي-2” الذي طالما حشدت موسكو مختلف الجهود لبنائه، لما له من أهمية اقتصادية واستراتيجية بعيدة المدى. أما المجال الآخر الذي قد يقترب فيه من خصومه الديمقراطيين في معاركهم مع روسيا، فيتعلق بالعقوبات التي يظل ترمب أكثر من أقرّها من الزعماء الأميركيين ضد روسيا، على الرغم من تصريحاته المتكررة حول أنه يهمه التعاون وتطوير العلاقات بين البلدين الولايات المتحدة وروسيا.
العقوبات
ويتوقف المراقبون في موسكو عند تجاوز الكرملين لقضية العقوبات التي لم يعد يهتم بها كثيراً، لا سيما بعد أن عثر على البدائل التي أسهمت من دون أن يدري خصوم روسيا في خدمة الاقتصاد الوطني في نهاية المطاف، بعد أن دفعت القائمين عليه إلى توفير البدائل المناسبة. كما أن موسكو صارت تبدو على يقين من أن العقوبات، وأياً كان حجمها وتنوعها، تظل أهون كثيراً من السياسات العدوانية لجو بايدن ومخططاته التي تستهدف مصالح الدولة الروسية على الصعيدين الإقليمي والدولي. ومن هنا قال سايمز إن ذلك تحديداً، هو ما قد يدفع ترمب إلى عدم التركيز على سلاح العقوبات، والتحول نحو سبل أخرى، بعيداً عما يمكن أن يضطر موسكو إلى التقارب بشكل أكثر مع بكين التي يظل البيت الأبيض يضعها في صدر أولوياته بوصفها “الحلم المؤجل”.
لكن الأخطر الذي تقف موسكو على أهبة الاستعداد لمواجهته، يظل في ما سبق وأعلنه بايدن حول اعتباره روسيا “الخطر الاستراتيجي” الذي يهدد بلاده، وإن كان هناك من يعتبر الصين هي الخطر الاستراتيجي الأكبر. وأشار سايمز إلى أن بايدن يبدو أكثر عداء وخصومة مع موسكو من منظور “أنه يعتبر روسيا ليست، وحسب دولة شمولية، بل هي دولة “شبه فاشية”، ومن غير الممكن التعاون معها من دون تغيير النظام”. وقال “إرغامها على تغيير السياسات ليس كافياً لأن الجذور في النظام السياسي وفي بوتين تحديداً”، وهو الذي سبق وطالب بوتين خلال زيارته موسكو عام 2011 بعدم العودة إلى الحكم. وذلك استمراراً لما كشفت الإدارة الأميركية أكثر من مرة ومنذ تسعينيات القرن الماضي، عما كانت تضمره من مخططات لتقسيم روسيا على غرار ما حدث مع الاتحاد السوفياتي السابق. وكانت مادلين أولبرايت وزيرة خارجية بيل كلينتون في تسعينيات القرن الماضي كشفت عن خطة لتقسيم روسيا إلى 52 ولاية ومقاطعة، في توقيت كانت الإدارة الأميركية الديمقراطية، ومنذ سنوات حكم بوش الأب تفرض هيمنتها على السياسة الخارجية الروسية كما يحلو لها، وهي التي كانت اختارت أندريه كوزيريف وزيراً لخارجية روسيا بمجرد مكالمة هاتفية أجراها بوش الأب مع الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. وبالمناسبة، فقد اختار كوزيريف بعد إقالته من منصبه عام 1996، الرحيل عن روسيا مفضلاً الإقامة الدائمة في الولايات المتحدة التي يعيش بها حتى اليوم.
“الثورات الملونة”
ولعل ما نفذته إدارات الديمقراطيين في الفضاء السوفياتي السابق من انقلابات تحققت تحت شعارات “الثورات الملونة”، يقول بفداحة الثمن الذي يمكن أن تدفعه روسيا في حال تبوأ الديمقراطيون سدة الحكم في البيت الأبيض. ويذكر المراقبون ما اعترف به الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما حول أن بلاده أنفقت ما يزيد على مليار دولار لتمويل “الثورة البرتقالية” في أوكرانيا اعتباراً من عام 2004، وهو ما تظل نتائجه تهدد أمن ومصالح الدولة الروسية منذ ذلك الحين، فضلاً عن تبعات تلك السياسات التي يشهدها العالم اليوم في بقية الجمهوريات السوفياتية المتاخمة لروسيا، ومنها أوكرانيا وجورجيا وبيلاروس وقيرغيزيا.
ومن هذا المنظور تتوقف موسكو بالكثير من الاهتمام عند ما أعلنه بايدن حول أنه لن يترك “تسميم” المعارض الروسي ألكسي نافالني من دون حساب. وتقول المصادر الروسية الرسمية إنها أيضاً تظل شديدة الاهتمام بالتوصل إلى حقيقة ما حدث، لا خوفاً من “تهديدات” بايدن، بقدر حاجتها إلى استبيان واستيضاح حقيقة الأمر لما يتعلق منه بقضية أمن النظام، وأهمية الكشف عن خصومه. وذلك لاعتبارات متعددة ليس أقلها إنه لم يكن من مصلحة بوتين، التخلص من نافالني باستخدام “سموم” محرمة دولياً، يجلب استخدامها ضرراً أكبر بكثير من قيمة نافالني، وهو المحدود التأثير سياسياً في الداخل، وكان من الممكن التوصل إلى النتيجة نفسها بوسائل أخرى متعددة.
كما أن هناك من الشواهد ما يقول بحاجة بوتين الحقيقية إلى معرفة خصومه في الداخل ممن قد يكونون قد اقترفوا هذا الجرم، أو من الخارج ممن يُحتمل وقوفهم وراء ارتكاب مثل هذا الحادث. وذلك ما كشف عنه سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي حين طالب الجانب الألماني بالتعاون مع النيابة العامة الروسية في تقصي الحقائق، وتقديم ما يتوافر لديه من أدلة يمكن أن تساعد الأجهزة المعنية في التوصل إلى الحقيقة الدامغة.
لكن الأخطر بالنسبة لموسكو، يظل في ما قاله سايمز حول تزايد حدة الاستقطاب في الولايات المتحدة، وما تشهده من تحالفات بين الديمقراطيين والمنظمات الراديكالية المتطرفة، ومنها “أنتيفا” التي يود ترمب إدراجها على قائمة الإرهاب، على اعتبار أنها تقف وراء الكثير من الحركات الاحتجاجية التي تستهدف مواجهة الرأسمالية اعتماداً على العنف والإرهاب. و”أنتيفا” التي تستمد تسميتها من كلمتي “أنتي فاشيست”، حركة عقائدية يسارية، ثمة من يقول إن بايدن كثير اللقاءات مع زعمائها بما يهدد باحتمالات انتشار تأثيرها في الخارج، على حد اعتقاد كثيرين.
تحركات “فاشية”
وهناك من الشواهد ما يقول بخطورة مثل هذه التوجهات من جانب بايدن، على ضوء ما يجرى من تحركات “فاشية” في أوكرانيا التي يراهن المرشح الديمقراطي على استخدامها شوكة في خاصرة روسيا والفضاء السوفياتي السابق، الأمر الذي تدركه القيادة السياسية في روسيا، وتحذر من مغبته.
على أن الواضح والمؤكد، ومع انتهاء ماراثون الانتخابات الأميركية، وبغض النظر عمن سوف تعلنه الولايات المتحدة سيداً للبيت الأبيض، فإن السياسة الروسية تجاه الولايات المتحدة ستظل تتوقف في عدد من جوانبها على مدى ما يمكن أن يطرحه الرئيس الفائز بهذه الانتخابات من حلول لقضايا العصر، وما يتعلق منها بالأمن القومي لروسيا ومصالحها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وذلك بحسب ما أقرته “نظرية السياسة الخارجية لروسيا الاتحادية”، وما أعلنه بوتين حول رفضه عالم القطب الواحد، وتأكيده لاعتبار “أن قضايا الأمن الدولي أكثر اتساعاً من قضايا الاستقرار السياسي والعسكري”، وضرورة دعم وتعزيز الأسس القانونية في العلاقات الدولية. وكان بوتين وتأكيداً لكل ما تقدم، استشهد بما قاله الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت “أينما ينتهك السلام، فإن العالم كله يصبح مواجهاً بالأخطار والتهديدات”.