الأخبار
الولايات المتحدة الأميركية المُنشغلة بانتخابات تكاد تُشعل حرباً داخلية، وبرئيسٍ يُجاهر بعدم احترام نتائج الانتخابات وينتقد أُسس النظام الأميركي، قرّرت أن تفرض عقوبات على رئيس أكبر كتلة نيابية لبنانية: جبران باسيل. الأخير رفض «التوقيع» على لائحة شروط سلّمته إياها السفيرة الأميركية في بيروت، على رأسها إعلان فكّ تحالفه مع حزب الله، مقابل ضمان مستقبله السياسي. ولأن واشنطن لم تحصل على توقيعه، عاقبته بذريعة الفساد
من كوبا وفنزويلا وبوليفيا إلى كوريا الشمالية والصين وإيران وسوريا وروسيا والعراق والسودان (سابقاً)، مروراً بدول أنتجت في فترات مُعيّنة أنظمة مُعادية لسياسات الولايات المتحدة الأميركية، ورجال أعمال وسياسة وجدت واشنطن داعياً لـ«مُعاقبتهم»، سلاح الحرب المُستَخدم واحد: العقوبات. لا تهمّ الأسباب المُزيفة المُقَدّمة لتبرير العقوبات، ولا تحت أي «قانون» أميركي تُدرج. فالمسؤولون الأميركيون يُجاهرون بأنّها وسيلتهم الأبرز لليّ ذراع كلّ خصومهم، وإجبارهم بهذه الطريقة على تقديم التنازل تلوَ الآخر، أملاً بإعادتهم إلى بيت الطاعة الأميركي. سذاجة «حلفاء» واشنطن في العالم، هي المُستغربة في هذه الحالة، تحديداً أولئك الذين يعتقدون حقّاً أنّ الولايات المتحدة «تنتقم» لهم ممّن عاث في بلادهم «فساداً»، مُصدّقين أنّها تشدّ على أياديهم وتُريد مُساعدتهم على «إصلاح» دولهم، فيُهلّلون ويفرحون كلّما أُضيف اسمٌ على «القائمة السوداء». في حين أنّ هدفَ الأميركيِّ في لبنان واحد: ضرب قوّة المقاومة اللبنانية التي تحمي لبنان، ضماناً «لأمن اسرائيل». وطالما أنّ منالها بعيد، ستبقى تُحاول تفكيك الدوائر المُحيطة بالمقاومة، مُراهنةً على أنّها بذلك تُضعف هيكلها فيسقط تلقائياً. في هذا الإطار، تندرج العقوبات التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية أمس، على رئيس التيار الوطني الحرّ، النائب جبران باسيل. هي معركة سياسية لم تُشنّ على باسيل وحده، ومن خلفه حزب الله، بل على رئيس الجمهورية، العماد ميشال عون أيضاً. في الأصل كان هو، وكانت وثيقة «مار مخايل» سنة 2006، التي عبّدت طريق التحالف بين اثنين من أكبر الأحزاب اللبنانية، وشكّلت نظام حماية كبيراً للبنان وأمنه وسيادته.
ردّ باسيل على القرار الأميركي كان شديد الوضوح إذ قال: «لا العقوبات أخافتني، ولا الوعود أغرتني. لا أنقلب على أيّ لبناني. ولا أُنقذ نفسي ليهلك لبنان. اعتدت الظلم وتعلّمت من تاريخنا: كُتب علينا في هذا الشرق أن نحمل صليبنا كلّ يوم… لنبقى». وسيعقد باسيل مؤتمراً صحافياً يوم غد الأحد، يسرد خلاله «وقائع مُهمة» – بحسب مُقربين منه – حول «العروض والإغراءات والتهديدات التي وصلته من الأميركيين في الفترة الأخيرة، وتُطالبه بفكّ التحالف مع حزب الله».
على مدى شهور، حاول مسؤولون أميركيون التوصّل الى اتفاق سياسي مع باسيل. آخر العروضات، كان رسالة رسمية نقلتها السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، تطلب فيها من رئيس «التيار» إشهاراً منه بقطع العلاقة مع حزب الله، وإدانة دور الأخير في سوريا والعراق واليمن، بالإضافة إلى تقديم ضمانات بالتوصّل إلى تسوية سريعة لملفّ ترسيم الحدود الجنوبية والإقرار بفصل الترسيم البرّي عن البحري، وعدم الأخذ بالمطالب التي تفرض حصة مطابقة لما أُقرّ ضمن ما يُسمّى بـ«خطّ هوف». وبحسب مصادر في «8 آذار»، تلقّى باسيل «ضمانات» أميركية بـ«حماية مُستقبله السياسي». تقول المصادر إنّ باسيل أوضح لمحدّثيه الأميركيين بأنّ العلاقة مع حزب الله هي «علاقة مع قوّة سياسية رئيسية، ولديها أكبر تمثيل شعبي في لبنان، وأنّ التيار الوطني الحرّ، مثله مثل بقية اللبنانيين، لا علاقة له بكلّ ما يُنسب إلى حزب الله من أنشطة خارج لبنان، وما قام به حزب الله في سوريا إنّما وفّر حماية للبنان لا العكس». هو الموقف نفسه الذي أعلنه باسيل قبل سنة في مؤتمر صحافي مع وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو: «حزب الله بالنسبة إلينا حزب لبناني غير إرهابي ونوّابه مُنتخبون من قبل الشعب اللبناني، وبتأييد شعبي كبير، وتصنيفه بالإرهابي يعود للدولة التي تقوم بذلك وهذا أمر لا يعني لبنان».
انتظر الأميركيون كثيراً لسماع مواقف جديدة لباسيل، وكانت الضغوط تشتدّ عليه بالتعاون مع الجانب الفرنسي، من بوّابة تشكيل الحكومة، سواء مع مصطفى أديب أم مع سعد الحريري. تقول المصادر إنّ الوزير السابق «أبلغ من يهمّه الأمر، بأنّ التيّار يميل إلى عدم المشاركة في الحكومة ولكنه لن يمنح الثقة لرئيس أو حكومة لا توافق على إجراءات جدّية لمعالجة الأزمات الحالية». تأرجحت ردود فعل الأميركيين، «أولاً عبر الرسائل التحذيرية بوقف التواصل المُباشر مع باسيل، ثمّ مع إبلاغ الرئيس عون أنّ أوروبا – كما الولايات المتحدة – ستُمارس الضغوط على جميع القوى، من ضمنها باسيل والتيار الوطني الحر لتحقيق تفاهم على الحكومة بما يتلاءم مع خطة صندوق النقد الدولي». نائب البترون رفض الانصياع لضغوط الأميركيين. وفي اللقاء الأخير الذي جمعه بشيا، قبل نحو أسبوع، رفض لائحة الشروط الأميركية التي ضمّت طلبات «غريبة». فإضافة إلى مطلب إعلان فكّ التحالف مع حزب الله، ضمّت اللائحة التي حملتها السفيرة الأميركية إلى باسيل «أوامر» أميركية بشأن قضايا تفصيلية، منها شؤون إدارية لبنانية، كأسماء مرشحين لتولي مناصب في مديريات محددة! وبالطبع، أرفقت السفيرة مطالبها بالتهديد بفرض عقوبات على باسيل شخصياً، لكنه، رغم ذلك، رفض العرض الأميركي. كل ما كان يمكن لباسيل «التساهل» به هو في أمور يراها «تكتيكية» سبق أن قام بها، كعدم زيارة سوريا علناً، وتسهيل المفاوضات لترسيم الحدود الجنوبية (علماً بأن الدولة اللبنانية، بجميع أركانها، اتخذت قرار التفاوض غير المباشر). ولأن باسيل رفض أن «يوقّع» على لائحة الشروط الأميركية، نفّذت واشنطن تهديدها بفرض العقوبات، التي كان جميع المعنيين يعيشون مناخها منذ أسبوع تقريباً. فبحسب المصادر، تبلّغت مرجعيات لبنانية نيّة الإدارة الأميركية إصدار قرار بالعقوبات، وكان البحث يتركّز على اختيار القانون الذي ستصدر العقوبات على أساسه.
وخلافاً لما حصل مع الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس في 8 أيلول الماضي، اللذين فُرضت عليهما العقوبات بناءً على قوانين مكافحة الإرهاب، استُخدم «قانون ماغنيتسكي» لـ«مُعاقبة» جبران باسيل. اللافت في الموضوع، أن تكون الإدارة الأميركية قد أقدمت على خطوتها «التفجيرية» للوضع في لبنان، في فترة عادةً ما تكون خلالها الإدارة قد دخلت «مرحلة اللاقرار» مع انتظار حسم هوية رئيسها. الولايات المتحدة الأميركية تمرّ في واحدة من أدّق مراحلها السياسية، «الميليشيات» تغزو شوارعها منذ أسابيع وتُهدّد بارتكاب العُنف في حال خسارة دونالد ترامب، الأخير يطعن بكلّ النظام «الديمقراطي» الأميركي، ويُهدّد بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات «الديمقراطية»، الاقتصاد الداخلي يُعاني من تبعات «كورونا»… ورغم ذلك تَجد الإدارة الأميركية «وقت فراغ» لتفرض عقوبات على باسيل. قد يبدو الإجراء «طبيعياً»، بعد أن استُنزفت كلّ الخيارات الأخرى، التي انطلقت مع حرب تموز في عام 2006، ثمّ الرهان على الحرب السورية والغارات التي شنّها العدو الإسرائيلي على قوافل يعتقد أنها تحمل أسلحة نوعية للمقاومة في سوريا (المعركة بين الحروب)، والأزمة الاقتصادية لتأليب بيئة حزب الله ضدّه، وفشل مشروع خطف سعد الحريري عام 2017 وتفجير حرب أهلية، وصولاً إلى عدم نجاح انتفاضة 17 تشرين، وبالتالي فشل الرهان الأميركي عليها لضرب حزب الله. هذا المسار الطويل، أوصل في النهاية إلى شنّ حرب العقوبات على حلفاء المقاومة. ما يحصل في لبنان، يُعتبر شبيهاً بالإجراءات التي اتخذتها واشنطن في الإقليم، يوم انتقلت إلى الحرب بواسطة العقوبات. هي عبر هذه الوسيلة، تُثبّت وقائع سياسية، يصعب على أي إدارة جديدة التراجع عنها. في حديثه أمس مع قناة «ال بي سي»، قال مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد شينكر: «هناك نوع من الاستمرارية في السياسات الأميركية في حال حصول تغيير في الإدارة أم لا… الولايات المتحدة ستستمر في النظر في عقوبات مستقبلية بموجب قانون ماغنيتسكي».
تنفيذ التهديد ضدّ باسيل، لا يعني إزالة الخطر عن سياسيين آخرين ينتمون إلى التيار الوطني الحرّ، وفريق رئيس الجمهورية، والقوى الحليفة لحزب الله… وحتّى إلى سعد الحريري. يُمكن القول إنّ في العقوبات رسالة إلى رئيس الحكومة المُكلّف، بمنع إفساح المجال أمام حزب الله ليكون فاعلاً في التركيبة الحكومية الجديدة. علماً أنّ شينكر اعتبر أيضاً أنّه «لا أرى سبباً لتؤثّر العقوبات على تأليف الحكومة، فهذه العقوبات مُستقلة». في مقدّمة نشرتها الإخبارية، أوردت قناة «المنار» أنّ «قراراً أميركياً بلا أدنى شكّ، شوّش على الخطوات الحكومية، وأصاب الزيارة التي قام بها الرئيس سعد الحريري (أمس) إلى بعبدا وقال القصر الجمهوري إنّها كانت إيجابية». فكما نقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن أحد المُطلعين على القرار الأميركي، «إدراج باسيل على القائمة السوداء من شأنه أن يُفجّر تشكيل الحكومة». الجريدة الأميركية كانت أوّل من نقل الخبر فجر أمس، واصفةً إياه بأنّه «محاولة لتخفيف قبضة حزب الله على السلطة». وفي الإطار نفسه، غرّد بومبيو بأنّ باسيل «ساهم من خلال أنشطته الفاسدة في نظام الفسائد والمحسوبية في لبنان… فساد جبران باسيل ساعد حزب الله على القيام بأنشطة تُزعزع الاستقرار… يجب على القادة اللبنانيين الاستماع لشعبهم وتنفيذ الإصلاحات ووضع حدّ للفساد. واليوم، تُصنّف الولايات المتحدة جبران باسيل، (وزير سابق)، فاسداً أساء استغلال مناصبه الحكومية. أهل لبنان يستحقون الأفضل».
لا يُمكن للإدارة الأميركية، التي لا تستهدف إلا سياسيين حلفاء للمقاومة، التسويق لمكافحتها الفساد، في حين أنّ أبرز المُتهمين بجرائم مالية واقتصادية ونهب الأموال العامة هم أقرب حلفائها إليها!
العقوبات بسبب دعم حزب الله
أُضيف النائب جبران باسيل إلى لائحة العقوبات الأميركية، وبموجب العقوبات سيتم تجميد كلّ الأصول في الولايات المتحدة العائدة له. وطلبت «الخزانة الأميركية» من المصارف اللبنانية، التي تُجري تعاملات بالدولار الأميركي تجميد كلّ أصوله في لبنان. وقال وزير الخزانة الأميركي، ستيفن منوتشين، إنّ «الفساد المُمنهج في النظام السياسي اللبناني، المتمثّل في باسيل، ساعد في تقويض أساس وجود حكومة فعّالة».
وجاء في بيان «الخزانة الأميركية» أنّ باسيل الذي «تبوّأ مناصب رفيعة في الحكومة اللبنانية، بما فيها وزير الاتصالات ووزير الطاقة والمياه ووزير الخارجية والمغتربين، متورط بمزاعم كبيرة بالفساد». وفي عام 2017، «عزّز باسيل قاعدته السياسية بتعيين أصدقاء له في مناصب. في عام 2014، عندما كان وزيراً للطاقة، وافق على مشاريع عدّة من شأنها توجيه أموال من الحكومة اللبنانية إلى أفراد مقربين منه من خلال مجموعة من الشركات». واتهم البيان، باسيل بأنّه «مسؤول أو متواطئ، أو متورط بشكل مباشر أو غير مباشر في الفساد، بما في ذلك اختلاس أصول الدولة ومصادرة الأصول الخاصة لتحقيق مكاسب شخصية».
الدافع الحقيقي للعقوبات عبّر عنه «مسؤول أميركي كبير» تحدّث إلى وكالة «رويترز»، ذاكراً أنّ دعم باسيل لحزب الله «هو الدافع لتحرّك أميركا لمعاقبته».
«عقوبات ماغنتسكي»
فُرضت العقوبات على النائب جبران باسيل بناءً على «قانون ماغنتسكي»، الذي يحظى بموافقة الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ويُقال إنّه «يستهدف الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في العالم». صادقَ عليه الرئيس السابق باراك أوباما في عام 2012، حين كان هدفه الأساسي مُعاقبة المسؤولين عن وفاة محاسب الضرائب الروسي، سيرغي ماغنتسكي في سجنه في موسكو عام 2009. في عام 2016، وقّع الرئيس دونالد ترامب على القانون بنسخته العالمية، ما سمح لحكومته بفرض عقوبات على من تجده مُناسباً.
العقوبات هي عبارة عن حجز على الأملاك وأموال المُستهدفين، وجميع من يتعامل معهم من شركات وكيانات وأفراد، وتُقفل حساباتهم المصرفية وحسابات أفراد عائلاتهم، ويُمنعون من دخول الولايات المتحدة الأميركية.