رسمياً، بات التقدير الغالب في إسرائيل، على ضوء مسار المحادثات المنعقدة في فيينا، أن الولايات المتحدة تتّجه إلى العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ورفع العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترامب على الأخيرة. سيناريو يُمثّل أحد أسوأ المآلات التي كانت تخشاها تل أبيب، وهو يعني، في حال تحقّقه، انفتاح مرحلة جديدة بالنسبة إلى الكيان العبري، تفرض عليه دراسة خياراته في مواجهتها، في الوقت الذي يشير فيه الواقع إلى أن أيّ خيار ستنتهجه إسرائيل سيكون مكلفاً جدّاً وبجدوى محدودة
ليس من المبالغة التقدير أن إسرائيل تتخوّف جديّاً من أنها مقبلة على مواجهة بيئة إقليمية أشدّ خطورة من أيّ مرحلة سابقة. فما عرضته الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية أمام جلسة المجلس الوزاري المصغّر، حول ما سمّته مصادر إسرائيلية «هرولة» الولايات المتحدة للعودة إلى الاتفاق النووي ورفْع العقوبات عن إيران، يتجاوز في أبعاده ورسائله ونتائجه ما يتّصل بالبرنامج النووي الإيراني. فهو، فضلاً عن كونه يكرّس انتزاع إيران الشرعية الدولية بتحوُّلها إلى دولة نووية، ستكون له تداعياته الإقليمية لمصلحة محور المقاومة في المحيط المباشر للكيان العبري.
بحسب الرؤية التي تتبنّاها القيادتان السياسية والعسكرية في تل أبيب، فإن رفع العقوبات عن إيران سوف يؤدي بالضرورة إلى رفع منسوب المخاطر على الأمن القومي الإسرائيلي، كونه يعني فشل الخيار الذي طالما روَّج له بنيامين نتنياهو حول إمكانية إخضاع طهران من خلال فرض عقوبات شاملة عليها. وتدرك المؤسّسة الإسرائيلية، بمستوياتها السياسية والاستخبارية والعسكرية كافة، أن إيران عام 2021 تختلف في قدراتها ووحدتها الداخلية عمّا كانت عليه في عام 2015، وأن قدرات حلفائها الإقليميين تطوّرت معها أيضاً إلى مستويات غير مسبوقة، وتحديداً في ما يتّصل بالصواريخ الدقيقة التي تنتشر في لبنان وسوريا، بحسب إقرار الخبراء والمعلّقين المختصّين، إضافة إلى مسؤولين رسميين في كيان العدو.
في الجلسة التي عُقدت أول من أمس، كان من الطبيعي أن تتمثّل نقطة الانطلاق في التقدير الذي قدّمته الأجهزة الاستخبارية الإسرائيلية، «الموساد» و»أمان»، والذي شكّل المُحدِّد الرئيس فيه التحذير من أن الولايات المتحدة تتّجه نحو العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران. تقدير لا يقتصر على كونه معرفة نظرية مجرّدة، بل يساهم في بلورة مفهوم تأسيسي يتمّ الاستناد إليه في استشراف اتجاه التطوّرات الإقليمية والمخاطر الكامنة فيها على الأمن القومي الإسرائيلي. وهو يقوم بدور جوهري أيضاً، إلى جانب عناصر أخرى، في التأسيس للخيارات التي سيدرسها المجلس الوزاري المصغّر في جلسة لاحقة، في إطار الجلسات التي يعقدها في هذا السياق.
يشير الواقع إلى أنّ الخيارات الإسرائيلية ضيّقة ومكلفة جداً وجدواها محدودة
لم يكن انعقاد المجلس الوزاري المصغّر بعد شهرين من الغياب، إلّا تعبيراً عن مستوى الخطورة الذي تنظر من خلاله إسرائيل إلى تطوّرات المسار الأميركي ــــ الإيراني، والارتقاء الذي شهده البرنامج النووي الإيراني بعد محاولة فاشلة لتعطيل منشأة «نطنز». إذ من الواضح أن هذا الفشل، وما تبعه من رفع مستوى التخصيب إلى 60%، إضافة إلى ما تلاه من تقدُّم على طاولة المفاوضات في فيينا، لم يكن ضمن السيناريوات المُرجَّحة في الغرف التي اتّخذت قرار تنفيذ الاعتداء على «نطنز». هذا الواقع المستجدّ والمتسارع على الصعيدين النووي والتفاوضي، كان دافعاً موجباً للقيادة الإسرائيلية من أجل تجاوز خلافاتها الداخلية، والبدء بدراسة الوضع واستكشاف المخاطر الكامنة فيه واتجاهاته، وما الذي ينبغي عليها انتهاجه في مواجهته. وبحسب ما نشرته وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن الجلسة شملت، بشكل أساسي، عرضاً استخبارياً ولم يُتّخذ فيها أيّ قرار. والأكثر خطورة، بالنسبة إلى إسرائيل، أن الجهات المختصّة في «الموساد» و»أمان» اتفقت على أن «مفاوضات فيينا ستسفر عن عودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي، وفي إطاره سترفع العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وستعود إيران إلى تطبيق التزاماتها بتحديد برنامجها النووي». وبينما ركّز مندوبو «الموساد» على التقدّم الإيراني في البرنامج النووي، ركّز مندوبو «أمان» على النشاطات الإيرانية في المنطقة.
يعني ذلك، بالمعايير الإسرائيلية، أن أحد أخطر السيناريوات التي كانت تتخوّف منها تل أبيب، وبذلت كلّ جهودها السياسية وغير السياسية من أجل تفاديها، ارتفعت المؤشّرات إلى إمكانية تحقُّقها على أرض الواقع. وفي حال تحقُّق ذلك، ستبدأ، بالنسبة إلى إسرائيل، مرحلة مختلفة في معالمها ومؤشّراتها ومخاطرها وتداعياتها. واستناداً إلى هذا التصوُّر، وصفت جهات وزارية مشاركة في جلسة المجلس الوزاري المصغّر، المحادثات التي تجرى في فيينا، بأنها «تثير القلق»، وخاصة أن من بين التقديرات التي حضرت أيضاً على طاولة الجلسة، أن هدف الأميركيين هو «اتفاق بأيّ ثمن. وإيران تعرف أنه سيكون هناك اتفاق، لكن تفعل كلّ ما تقدر عليه لتحقيق إنجازات».
ومع أنه تمّ تأجيل بحث الخيارات الماثلة أمام إسرائيل إلى جلسة لاحقة، إلا أن الواقع يشير إلى أنها ضيّقة ومكلفة جداً وجدواها محدودة. ويعود ذلك إلى فشل ما سبق من خيارات سياسية وأمنية واقتصادية، كانت تأمل تل أبيب أن تُعزّز عبرها أمنها القومي، وتحقّق مصالحها. وعلى خطّ موازٍ، فإن الخيارات العسكرية الدراماتيكية تتجنّبها الولايات المتحدة، ولا تستطيع إسرائيل، مهما ارتفعت أصوات مسؤوليها وقياداتها العسكرية، التفرُّد بقرارات من النوع الذي يؤدّي إلى تفجير المنطقة، من دون ضوء أخضر ودعم ومشاركة من واشنطن.
كما في الكثير من المحطّات، لا تقتصر تداعيات أيّ خيارات أو عمليات فاشلة على كونها لم تُحقّق النتائج التي كانت إسرائيل تطمح إليها، بل قد تتدحرج في اتجاه تفاقم المخاطر بدلاً من أن تدفعها إلى الوراء، وقد تؤدي إلى تعزيز موقف الطرف المقابل بدلاً من إضعافه. مع ذلك، فإن هذا السيناريو ــــ قلْب المعادلات رأساً على عقب ــــ لا يتحقّق من تلقاء ذاته، وإنما يحتاج إلى مَن يُشخِّص مكامن الفرص في التهديدات الفعلية، ويملك الإرادة والشجاعة وحسن التخطيط والتنفيذ في مواجهة ما يتعرّض له. وأكثر ما تجلّى هذا المفهوم في توظيف إيران للطاقة النووية، إلى جانب أبعادها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، في سياق الضغط المضادّ في مواجهة الضغوط الأميركية، وأيضاً العمليات الأمنية الإسرائيلية. وعمدت القيادة الإيرانية إلى ترجمة ذلك وفق إيقاع مدروس في المضمون والتوقيت، خلال ولايتَي الرئيس باراك أوباما، وولاية الرئيس دونالد ترامب، وفي مواجهة إدارة جو بايدن التي تمسّكت بالعقوبات القصوى في محاولة لتثميرها من أجل انتزاع تنازلات نووية وإقليمية وصاروخية، وصولاً إلى العملية التي تعرّضت لها منشأة نطنز. وبهذا، استطاعت إيران تحويل برنامجها النووي إلى عامل قوة إضافي، ومن دون إنتاج الأسلحة النووية، في مواجهة المخاطر التي كانت ولا تزال محدقة بها، قبل البرنامج النووي وبعده.
الأخبار