يُقفل عام 2022 على معطيات وبائية مقلقة لناحية عودة أمراض كانت اللقاحات قد أنهت وجودها كـ«الحصبة والجدري وفيروس الكبد الوبائي ب» وفق تقارير الترصّد الوبائي في وزارة الصحة، وعلى ارتفاعات كبيرة في الإصابة بأمراض مرتبطة بسلامة الغذاء، إذ سجّل الترصّد الوبائي خلال العام الجاري وحتى منتصف هذا الشهر 9 آلاف إصابة بأمراض مرتبطة بالغذاء والمياه، وذلك بارتفاع بنسبة 700% عن عام 2021، التي سجّلت 1268 إصابة. هذا التدهور الكبير في الوضع الصحي اللبناني يمكن ملاحظة تطوّره على مدى سنوات الأزمة منذ عام 2019، فالأرقام ترتفع بشكل سنوي، ثمّ أتت الكوليرا في الفصل الأخير من هذه السّنة، بالإضافة لانتشار «فيروس الكبد الوبائي أ، أو اليرقان» في بعض المناطق، ليقلبا الدفة تماماً، وتسجّل بالتالي هذه النسب المرتفعة.
الكوليرا تنكفئ مرحلياً
على مستوى الكوليرا، لا يزال العدّاد شغالاً، والأرقام في ارتفاع، إذ ناهزت الـ 5500 إصابة منذ تسجيل الإصابة الأولى في شهر تشرين الأول حتى منتصف الشهر الجاري، كما ارتفعت أعداد الوفيات إلى 23، ما يعني إنّ نسبة القتل تساوي 0.5%، وقد تكون أقل لأنّ هناك مصابين إمّا لا يصرّحون، أو لا يعلمون بإصابتهم لأنّها من دون عوارض. تركّزت الإصابة عند الأطفال دون الـ15 سنة، بنسبة وصلت إلى 41% من المصابين، ويحتاج 21% من المصابين بالكوليرا في لبنان لدخول المستشفى، وتشكّل محافظتا لبنان الشمالي وطرابلس الثقل الأكبر للإصابات، بنسبة تساوي 80.5% مع 4287 إصابة وفق تقارير وزارة الصحة. واستطاعت المختبرات اللبنانية بالشراكة مع مختبرات في الخارج تحديد فصيلة بكتيريا الكوليرا الموجودة في لبنان حالياً بـ«O1 El-Tor Ogawa»، وهي ذاتها الموجودة في الإقليم المحيط، ما يعني أنّ العدوى واحدة بيننا وبين سوريا والعراق.
في مواجهة البكتيريا، اعتمدت الدولة والمنظمات الدولية والجمعيات الأهلية على أمرين فقط: اللقاحات والكلور، ولم يسجّل أبداً أيّ عمل جدّي على تشغيل محطات تكرير المياه، أو صيانة المجاري الصحيّة في المناطق الموبوءة. وعليه، تمّ توزيع ما يناهز الـ480 ألف جرعة لقاح في لبنان حتى الرابع من الشهر الجاري، ومن بعد هذا التاريخ توقف العدّ رسمياً، ولم نحصل على إجابة رسمية من وزارة الصحة حول المستجدات. وتمّت عملية التلقيح ضد الكوليرا بجرعة واحدة، ما يعطي حصانة جزئية لا تزيد عن ثلاثة أشهر وفق اختصاصيين، الذين يحذرون من أنّ «آخر الحلول في مكافحة الكوليرا هي اللقاحات، كون الهدف الأول لكبح الانتشار هو المياه النظيفة» ثمّ يطمئنون بأنّنا خرجنا من مرحلة الخطر الأحمر ووصلنا المرحلة البرتقالية نظراً إلى الإجراءات السّريعة التي أخذتها وزارة الصحة، بانتظار الوصول إلى مرحلة الأمان.
وتنحسر سبل تنظيف المياه في لبنان أيضاً خلال عام 2022 بالكلور، إذ وزّعت أطناناً من هذه المادة، إذ تذكر تقارير اليونيسيف وحدها توزيع مئات آلاف حبات الكلور لتعقيم المياه في البيوت والمدارس الواقعة في المناطق السّاخنة، وما يزيد عن 50 طناً من مركّبات الكلور الخاصة بتعقيم الخزانات الكبيرة للبلديات.
خطر الأغذية
يُضاف إلى وباء الكوليرا بؤر تفشّ لأوبئة محليّة تعود بشكل أساسي إلى «سلامة الغذاء» وفق تقارير الترصّد الوبائي في وزارة الصحة، ففي منطقة الشّمال عامة، وطرابلس تحديداً انتشر أكثر من مرّة «فيروس الكبد الوبائي أ»، والمتهم دائماً كان وصول مياه الصّرف الصحي إلى شبكات الماء المخصّصة للشرب، أما النتيجة فكانت 2114 إصابة، 66.5% منها في الشّمال، و36% من المصابين أعمارهم دون الـ9 سنوات. وبالمقارنة مع عام 2021، ارتفعت الإصابة بـ«فيروس الكبد الوبائي أ» وحده بنسبة 490%.
إلى جانب الأوبئة السّابقة تعود «حمى التيفوئيد» لتسجيل قفزات كبيرة في الإصابات، إذ ارتفعت نسبة الإصابة بها 300% مقارنةً مع عام 2021. يعود هذا المرض لبكتيريا «السالمونيلا»، التي تدخل إلى جسم الإنسان نتيجة استهلاك غذاء أو ماء ملوثين، وكان عدد الإصابات الأكبر منها موزعاً على محافظات الشّمال وعكار والبقاع، حيث يتواجد العدد الأكبر من مخيّمات النازحين التي تفتقر إلى أدنى شروط الصرف الصحي الآمن.
ولم تتوقف سنة 2022 عند هذا الحد، بل سُجّل فيها أيضاً «1070 حالة تسمّم غذائي وزحار ((dysentery، و215 مصاباً بداء البروسيلات»، والمرض الأخير ناتج عن تناول حليب غير مبستر، أو لحوم غير مطهية جيداً. بالإضافة إلى ما سبق، هناك 259 حالة «التهاب سحايا»، التي يمكن أن تنتج عن عدد من العوامل (فيروسات، بكتيريا أو طفيليات)، إلا أنّه «لا يوجد في لبنان وباء سحايا كون الإصابة ليست ناتجة عن بكتيريا، إنّما عوامل أخرى» وفق الدكتورة ندى غصن مسؤولة الترصّد الوبائي في وزارة الصحة.
كوفيد صامت
يناهز العدد التراكمي للمصابين بكوفيد منذ تسجيل الإصابة الأولى حتى اليوم في لبنان المليون ومئتي ألف إصابة مسجلة رسمياً، أكثر من 50% منها أصيبت خلال عام 2021 وفق الأرقام الرّسمية الصادرة عن وزارة الصحة، وتضيف تقارير الوزارة أيضاً أنّ «عدد الوفيات التراكمي وصل إلى 10.743 شخص، 1607 أشخاص منهم توفوا عام 2022».
إذاً، يستمر فيروس كوفيد بالانتشار وحصد الإصابات، ولكن ببطء ومن دون ضجيج إعلامي هذه المرّة لفقدانه الأضواء عالمياً ومحلّياً من جهة، والإقبال الجيّد على أخذ اللقاح من جهة ثانية خلال السّنوات السّابقة للـ 2022، إذ بلغت نسبة الملقّحين بجرعةٍ واحدةٍ من مجمل اللبنانيين المقيمين 50%، ولكن لم يشهد عام 2022 إقبالاً كبيراً على أخذ اللقاح، إذ لم ترتفع النسبة خلالها أكثر من 10%، فنسبة الملقحين أواخر عام 2021 كانت 40%. أما المحصنّين بشكل تام، الذين حصلوا على 3 جرعات من اللقاح، فلم تتجاوز نسبتهم الـ 40%.
وH3N2 مستمرّ
إلى جانب هذه الأوبئة، سجّل عام 2022 عودة قوية لفيروس الإنفلوانزا بنسخة H3N2، الأكثر تأثيراً على الصحة، والتي تستدعي دخول المستشفى للمصابين بها من أصحاب الأمراض المستعصية، أو المتعلّقة بالمناعة. وتظهر هذه الموجة بوضوح في المدارس، «التي تعجّ بالإصابات منذ بداية موسم الإنفلوانزا في الأشهر الباردة»، بحسب أكثر من مدير في مدارس خاصة ورسمية. ولكن بقيت هذه الإصابات طي الكتمان، ولم تستدعِ أيّ إقفال، ولو للصفوف، كما كان يحدث خلال جائحة كورونا، فيصف مدير مدرسة كبرى في منطقة الجنوب العطلة بـ«حبل النجاة، الذي انتظرنا وصوله طويلاً للإقفال»، ويضيف بأنّ «نسبة التلامذة المرضى في مدرسته وصل إلى الـ25%».
طبياً، يطمئن أخصائي في الأمراض الجرثومية إلى «عدم تحوّل هذه الموجة إلى جائحة على مستوى العالم، كون هذه النسخة من الفيروس معروفة، وليست بجديدة»، مع الدعوة والتشديد على «أخذ اللقاح الخاص بالإنفلونزا كونه يمنع العوارض الشديدة، ويحمي بنسبة 50%». ويحذّر من «أنّ الموجة لن تنحسر إلّا مع نهاية الأشهر الباردة، وهي لم تصل إلى ذروتها بعد، إذ من المتوقع أن ترتفع الإصابات أكثر خلال شهرَي كانون الثاني وشباط من السّنة الجديدة».
المنظمات غير الحكومية: وزارة الظلّ للصحة
تسيطر المنظمات غير الحكومية، على اختلاف مشاربها ودولها المرجعية، على الأرض بشكل لافت، إذ تشارك وزارة الصحة حتى في حملات التلقيح عبر نشر فرق العمل في القرى والأقضية المستهدفة بلقاح الكوليرا. وتبدو الأمور أكثر وضوحاً من خلال عشرات التقارير التي تصدر عنها ذاكرةً إنجازاتها في مضمار واحد، على سبيل المثال في تقرير لمنظمة «العمل ضد الجوع» الأميركية العاملة على الأراضي اللبنانية، يُذكر 3 جمعيات أخرى مساعدة في «مكافحة وباء الكوليرا». ويذكر أنّ هذه الجمعيات تعمل بدون رقابة حقيقية من الدولة، بالتالي لا أحد يحاسب في حال وقوع الأخطاء، على سبيل المثال يتكرّر في تقاريرها عبارة «التخلص من الأوساخ، أو محتويات الحفر الصحية»، من دون تحديد مكان رمي هذه المواد الملوّثة، وهذا ما تحدثت عنه الأخبار سابقاً.
فؤاد بزي – الاخبار