د. عصام نعمان
نعيش جميعاً في زمن الفوضى الخلاّقة ، من شواطىء المتوسط غرباً الى شواطىء الخليج شرقاً. الفوضى الخلاّقة حالة خطّط لها الاميركيون وحققها العرب. إنها مشهدية اميركية – عربية مشتركة . الغريب ان الجمهور المحلي في جميع ساحات العرض لا يملّ من مشاهدتها والمشاركة فيها. لكأنها ملحمة اسطورية عابرة للأزمنة والأمكنة.
قد يبدو التوصيف سوريالياً . اجل ، إنه كذلك من فرط ما هو واقعي . أليس التكرار الممل احياناً ، المشوّق احياناً اخرى ، دليلاً على واقعيةٍ راسخة ومتجددة في آن ؟
الممثلون محلّيون في معظمهم . يظهر على مسارح الساحات احياناً ممثلون أغراب. لكن سرعان ما يختفون تحت وطأة الحضور المحلي الغالب. المُخرج محلي ايضاً . قد يكون درس وتخصّص في الغرب ، لكنه غالباً ما يكون متمرساً بثقافة الشرق وبتقاليده العريقة.
ثمة ضرورة ملحّة ومهمة شبه مستحيلة الآن : الخروج من هذه المشهدية المزمنة اللامتناهية . الخروج منها يكون بهمّة مُخرج او مُخرجون محليون وطنيون وممثلون محليون وطنيون وجمهور وطني اصيل . ثمة حاجة وضرورة ورغبة جامحة لدى الجمهور الى الخروج من المشهدية المكرورة الى مشهدية جديدة غير مملّة وغير دموية واكثر متعة وبهاء.
كيف ؟
بالجمهور نفسه. ذلك لأن ظاهرة فريدة ، غير مسبوقة برزت اخيراً في ساحات عرض المشهدية الخالدة وتعملقت بشكلٍ لا رادَّ له ، لكأنما جمهوراً آخر من كوكب آخر احتل الساحات فجأة . صحيح انه جمهور متنوّع يضجّ بلهجات وشعارات وصبوات متعددة ومتمايزة ، لكن صيحة واحدة في مختلف اوساطه وصفوفه تعلو فوق كل ما عداها: أُخرجوا ايها الممثلون الفاشلون ومعكم المُخرج الشائخ والمنهَك.
ما يريده الجمهور ، اساساً ، وقف المشهدية المكرورة المملة بإخراج الممثلين الفاشلين والمُخرج المنهَك من ساحة العرض . لعل الوسيلة الفضلى لتحقيق هذه الغاية هي إدامة الصياح والضجيج والضغط لجعل اداء الممثلين مستحيلاً ، فيضطرون الى الإنسحاب بلا ضجة.
حذار استخدام العنف مع الممثلين او تخريب بعض مستلزمات الديكور. ذلك لأن للممثلين اهلاً وأنسباء واصدقاء قد يبادرون الى الدفاع عنهم فيندلع اشتباك لا جدوى منه. إستمرار الجمهور في الإعتراض والإستهجان والصياح والضغط كفيل بحمل المُخرج على وقف العرض.
اجل ، المطلوب وقف المشهدية المملة ، المكلفة ، والمتطاولة التي ارهقت اللبنانيين منذ 47 يوماً. لا يجوز التفكير بإستبدال الممثلين الفاشلين بآخرين من الصف الثاني . لا يجوز إجلاء الممثلين الفاشلين عن المسرح وإبقاء المُخرج حاضراً في الكواليس ومنهمكاً في التحضير لفصلٍ مغاير في المشهدية ذاتها. يقتضي ان ينبثق من الجمهور فريق يأخذ على عاتقه تنظيف ساحات العرض من آثار ومخلّفات الممثلين المنسحبين وانتداب بعض اعضاء الفريق لإعادة ترتيب ساحات العرض والتحضير لعملية يُصار بموجبها الى اختيار مُخرج او مُخرجين جدد لإعداد مشهدية جديدة تكون بكل عناصرها مغايرة وممتعة وملهمة وكفيلة بعدم إجترار الفوضى الخلاّقة.
كيف يمكن ترجمة المعاني المستمدة من رمزية المشهدية المرذولة الى حقائق وتدابير نابضة وشافية على مسرح الوضع اللبناني النازف ؟
لعل الحقيقة الاولى الساطعة المستمدة من الحراك الشعبي المتعاظم وغير المسبوق الذي يلّف البلاد هي ان الشعب اللبناني في غالبيته يدين اهل السلطة بكل تلاوينهم ويبتغي تنحيتهم بما هم إدارة فاشلة لنظام سياسي فاسد ومتهالك .
يترتّب على ذلك عدم منطقية وعدم مشروعية ان يتولى اهل النظام الطائفي الفاسد أنفسهم مهمة إخراج البلاد من ازمةٍ سياسية اقتصادية اجتماعية متعاظمة تسبّبوا بها على مدى عهود عدّة .
غير ان ذلك لا يعني ، بالضرورة ، إسقاطهم دُفعة واحدة بل استجابتهم بالتخلّي عن الإنكار والمكابرة والقبول تالياً بمطالب قوى التغيير الديمقراطي ، داخل الحراك الشعبي وخارجه ، بما يؤدي الى إقامة حكومة وطنية انتقالية بصلاحيات استثنائية لمدة لا تقلّ عن ستة أشهر ، تتبنّى مطالب الحراك ومناصريه، وتلتزم تنفيذها بموجب جدول اولويات على النحو الآتي :
اولاً ، التصدي للفساد والفاسدين وناهبي الاموال العامة بتدابير اجرائية وأحكام صارمة بالتعاون مع القضاء.
ثانياً ، معالجة الضائقة المعيشية بتدابير اقتصادية واجتماعية معجّلة تضمن توفير المتطلبات الحياتية الاساسية وفي مقدمها الخبز والحرية والعمل والوقود والسلع الضرورية .
ثالثاً ، معالجة إختلالات المالية العامة بهيكلة الدين العام ، وخفض فوائده الجائرة ، وضبط ادارة الجمارك ، وتحصيل الرسوم والضرائب المستحقة في ذمة المتسلطين على الاملاك العامة البحرية والنهرية.
رابعاً ، تطبيق الحوكمة الشاملة في الادارات والمؤسسات العامة، وتفعيل اجهزة الرقابة والقضاء وتعزيز استقلالها عن السلطة التنفيذية ، ومكافحة الإحتكار بتعزيز المنافسة وإلغاء الوكالات الحصرية ، وحصر استيراد المحروقات والأدوية والقمح بالدولة.
خامساً ، وضع قانون للإنتخابات على اساس الدائرة الوطنية الواحدة ، والتمثيل النسبي ، واعتماد سن الثامنة عشرة للإقتراع ، وتنفيذ المادة 22 من الدستور (مجلس للنواب وطني لاطائفي ومجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف ) واحالته على مجلس النواب لإقراره خلال شهرين من تاريخ الإحالة وإلاّ يجرى طرحه بموجب مرسوم اشتراعي على إستفتاء عام بحيث يصبح قانوناً مشروعاً وشرعياً اذا نال اكثر من خمسين في المئة من اصوات المقترعين ، ويصار تالياً الى إجراء انتخابات عامة بموجبه خلال ثلاثة اشهر من تاريخ إقراره .
لعل أهم مهام الحكومة الانتقالية المار ذكرها قيامها بوضع ذلك القانون الديمقراطي الدستوري للإنتخابات والإشراف على إقراره في استفتاء شعبي . ذلك ان لا سبيل الى الإنتقال من نظام المحاصصة الطائفية الى نظام الدولة المدنية الديمقراطية إلاّ تدريجياً ومن خلال ترتيبات واجراءات تكفل مشاركة اوسع كتلة من اللبنانيين في إقرارها. فقد فشل فشلاً ذريعاً اعتماد الانقلاب العسكري كما العنف في حرب اهلية لتحقيق التغيير الديمقراطي.
وحده التوافق الوطني الشعبي العريض كفيل بتحقيق اصلاحات جذرية في مسار طويل يقود الى الخروج من الفساد والفوضى الخلاّقة الى رحاب الدولة المدنية الديمقراطية ، وقد آن الآوان.