د. عصام نعمان
منذ اشهر يُمطر دونالد ترامب صديقه بنيامين نتنياهو هدايا سياسية ثمينة : سحب الإعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ، ووقف دعم اميركا لوكالة غـوث اللاجئين الفلسطينيين، والإعتراف بالقدس عاصمة لـِ”اسرائيل” ، والتسليم بسيادتها على الجولان السوري المحتل.
الآن جاء دور فلاديمير بوتن . ها هو يقدّم لنتنياهو هدية لا تقدّر بثمن: العثور على رفات جندي اسرائيلي قتل في الحرب مع سوريا في بلدة السلطان يعقوب اللبنانية قبل 37 عاماً ، وذلك قبل 7 ايام فقط من الإنتخابات في الكيان الصهيوني.
لا شيء في السياسة بلا ثمن . هذه القاعدة لا تسري على التعامل بين الولايات المتحدة و”اسرائيل” ، خصوصاً في عهد ترامب ، لكنها تسري بالتأكيد على التعامل بين روسيا والكيان الصهيوني . يوسي ميلمان ، معلّق الشؤون الامنية في صحيفة “معاريف” قال : “بالنسبة الى الرئيس الروسي، لا يوجد شيء مجاني . عاجلاً او آجلاً سيجبي بوتن الثمن مقابل المساعدة التي قدمتها اجهزة الإستخبارات الروسية. هذا اذا لم تكن “اسرائيل” قد دفعت الثمن حتى الآن “.
أيّاً من معلّقي الصحف الاميركية لم يتجرأ على مجرد الإشارة الى الثمن الذي يمكن ان يستوفيه ترامب من نتنياهو ، ذلك لأن الجميع ، سياسيين وإعلاميين ، يعرفون ويسلّمون بأن لا ثمن يُجبى من الكيان الصهيوني مذّ تمّ زرعه في قلب عالم العرب سنة 1948 . استباقاً لأي شك او امل يساور العرب بأن ثمة ثمناً سيدفع من طرف اميركا ، سارع نتنياهو الى الكشف عن “مبادىء” ما يُسمّى “صفقة القرن” التي قيل إن ترامب يعتزم طرحها على الملأ بعد إنتهاء الإنتخابات الإسرائيلية في 9 الشهر الجاري.
ماذا كشف نتنياهو ؟
مبادىء ثلاثة :
– “لا تقسيم للقدس”. معنى ذلك رفض ، بل إسقاط ، نهائي لمبدأ ان تكون القدس الشرقية عاصمة لدولة فلسطين ، كما جاء في مبادرة السلام العربية للعام 2002 .
– “لا تفكيك للمستوطنات وبالتالي لا إجلاء لمستوطنين اسرائيليين عن الضفة الغربية” . معنى ذلك تشريع الإستيطان الصهيوني في كامل فلسطين التاريخية.
– “سيطرة امنية كاملة لـِ”اسرائيل” بين النهر والبحر”. معنى ذلك إستمرار الإحتلال الصهيوني للضفة الغربية وبالتالي لا سيادة لغير “اسرائيل” عليها .
الى ذلك ، اكّد نتنياهو رفضه وحدة غزة مع الضفة الغربية وبالتالي كرر موقفه بأن لا دولة فلسطينية ، مطيحاً بما يُسمّى “حل الدولتين”.
ماذا عن “الثمن” الذي يمكن ان يجبيه بوتن من نتنياهو لقاء هديته الثمينة عشيةَ الإنتخابات الإسرائيلية ؟
لعلنا في عرضٍ سريع لوقائع إهداء رفات الجندي القتيل زخاريا باومل لنتنياهو ما يُساعد على التكهن بالثمن المحتمل. فقد اتضح من تصريحات نتنياهو وبوتن في موسكو ان تل ابيب تقدّمت قبل سنتين من روسيا بطلب المساعدة للعثور على رفات الجندي القتيل ، وان نتنياهو خاطب بوتن بقوله “نحن ممتنون لكم لصداقتكم الشخصية ولموقفكم وموقف روسيا التي تشارك “اسرائيل” هذه القيم (اي اهمية استعادة رفات جنودها المفقودين) ، وان بوتن حرص على ابلاغ نتنياهو انه تمّ اجراء جميع الاختبارات الجنينية “للتأكد من ان الرفات تعود للجندي القتيل” ، وان احتفالاً مهيباً جرى وشارك فيه بوتن ضيفه الإسرائيلي ابتهاجه الشديد بإعلان إرسال ما تبقّى من رفات زخاريا باومل الى القدس المحتلة ، وان نتنياهو غادر فوراً للمشاركة في الإحتفال غير العادي بتشييع الرفات-الهدية الى مثواه الاخير.
غير انه اتضح لاحقاً من بيان صدر عبر وكالة “سانا” الرسمية ان “لا علم لسوريا بموضوع رفات الجندي الإسرائيلي ، وان ما جرى هو دليل يؤكد تعاون المجموعات الإرهابية مع الموساد”. فوق ذلك ، كشف ناطق بلسان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة وجود رفات الجندي الإسرائيلي في حوزة التنظيمات الإرهابية في مخيم اليرموك قبل نجاح الجيس السوري في طردها منه. هذه المعلومة تعزز اتهام الحكومة السورية المجموعات الارهابية بالتعاون مع الموساد.
لكن ، اذا كان ذلك صحيحاً ، فكيف سمحت موسكو لنفسها بالتعاون مع تنظيمات ارهابية لإستخلاص الرفات منها وتسليمه الى “اسرائيل” بدلاً من تسليمه الى الحكومة السورية او لأي فصيلة من فصائل المقاومة بغية تمكينها من مقايضته بأسرى سوريين او فلسطينيين قابعين في سجون العدو الصهيوني؟ ثم، على افتراض ان لروسيا مصلحة “مشروعة” في إستخلاص رفات الجندي الإسرائيلي من تنظيم ما على الاراضي السورية لتسليمه الى حكومته ، فهل يجوز ألاّ تحيط الحكومة السورية الحليفة علماً بما تنتوي عمله على اراضيها خدمةً لدولة معادية تحتل مساحة لا يستهان بها من ترابها الوطني ؟
اسئلة كثيرة تطرح نفسها في مجال تحرّي دافع موسكو الى التصرف بهذه الطريقة غير اللائقة ، وربما الضارّة ، بالامن العربي السوري . فهل ان ثمن هديتها الثمينة لنتنياهو هي ما تردد في وسائل اعلام صهيونية (مثلاً: Ynet بتاريخ 4/4/2019) حول مطالبة موسكو الجانب الإسرائيلي بوقت انذارٍ أطول قبل قيام سلاح الجو الإسرائيلي بعمليات في الأجواء السورية ؟ ام هل تراها طلبت من تل ابيب صرف النظر عن تهديدها بتدمير بطاريتيّ منظومــة الدفــاع الجـوي S-300 اذا ما قام الضباط الروس العاملون في سوريا بنقل السيطرة عليها الى السوريين ؟
سيتضح يوماً الدافع الحقيقي لقيام موسكو بتلك العملية المفاجئة والغامضة ، لكن ليس قبل انتهاء الإنتخابات الإسرائيلية في 9 الشهر الجاري . هذه الإنتخابات التي قدّم بوتن لنتنياهو قبل 7 ايام من اجرائها خدمةً كبرى مدفوعة او غير مدفوعة الثمن ، جعلت فوزه فيها امراً شبه مضمون.
متى سيكشف بوتن سر “صفقة الرفات ” ؟