لعل مزحة النجم السوري دريد لحّام بإهداء ولاية كاليفورنيا الأميركية الى المكسيك ردّا على قرار الرئيس ترامب بشأن الجولان، لاقت تفاعلا على وسائل التواصل الاجتماعي في الوطن العربي، أكثر من قضية الجولان نفسها في اليومين الماضيين. وعلى أهمية هذه المبادرة من صاحب شخصية غوّار الطوشي الشهيرة، الاّ أن ما يجري يشي بخطر كبير قادم على العرب جميعا بمسلميهم ومسيحييهم، ذلك أن هذا التحالف المقلق بين سيد البيت الأبيض وإسرائيل، ينطلق من أسباب دينية وإيديولوجية مُدمّرة للمنطقة برمّتها.
كنتُ في الأيام القليلة الماضية أجول على المكتبات الفرنسية، فلفتني عددُ الكتب المنتقدة بشدّة للكنيسة الكاثوليكية بسبب كشف فضائح تحرشات جنسية قام بها عدد غير قليل من الرهبان حيال أطفال عبر العالم، تماما كما أن كثيرا من البرامج التلفزيونية والمقالات الغربية تُسلّط الضوء منذ فترة على هذا الأمر المنبوذ بطبيعة الحال والواجب القصاص من الرهبان المجرمين. لكن هل خطأ عدد من الرهبان يبرر تشويه كل الكنيسة من قبل إعلام نعرف تماما من يُسيطر عليه في الغرب؟
ترافقت هذه الهجمة الإعلامية على الكنيسة والفاتيكان، مع شق الكنيسة الارثوذوكسية الروسية بعد انفصال الكنيسة الأوكرانية ما دفع الكنيسة الروسية الى قطع كل العلاقات مع البطريركية القسطنطينية المسكونية في إسطنبول، احتجاجا على قبولها انفصال كنيسة أوكرانيا. ويقال أن ثمة مساعِ جدية لإنشاء دولة إسرائيلية رديفة في مناطق أوكرانية تكون داعمة لإسرائيل وامتدادا لها.
وقبل هذه الضربات الموجعة للكنيستين الكاثوليكية والارثوذوكسية، كان الإسلام في العالم قد تعرّض لأسوأ هجمة ” اسلاموفوبيا”، خصوصا بعد الاعتداءات الإرهابية على نيويورك في شهر أيلول/ سبتمبر من العام ٢٠٠١
فصار كل مُسلمٍ في الغرب مشتبه به حتى يُثبت العكس. ولم يقصّر الارهابيون المتلبّسون لبوس الإسلام في المساهمة بتشويه هذه الصورة من خلال قتل مئات الأبرياء في العواصم الغربية بعد أن فعل ارهابهم فعله في الجسد العربي.
بالمقابل، وفيما غرق العرب والمسلمون بفخ الفتنة السنية الشيعية ونبشوا أحقادا تعود الى نحو ١٤ قرنا وتنافخوا شرفا ( وغباء) ضد بعضهم البعض ، يشهد العالم منذ سنوات تمدّدا واسعا لحركة إنجيلية محافظة جديدة يُطلق عليها البعض أسم ” الإنجيليين الصهاينة”. يؤمن أنصارها والذين يربو عددهم اليوم على ٧٠ مليونا في أميركا وأميركا اللاتينية وافريقيا وعدد من دول العالم، بأن عودة السيد المسيح لا تتم الا عبر عودته الى الهيكل، وأن الهيكل يجب أن يقوم في القدس اليهودية وان على إسرائيل الانتصار على كل أعدائها. هم ناصروا إسرائيل منذ تأسيسها وناهضوا كل من ناهضها ودعموا احتلال العراق وحرب غزة وضرب لبنان. هؤلاء يؤيدون حاليا قرار ترامب بشأن القدس والجولان، بعد أن كانوا أبرز داعميه للوصول الى الرئاسة ووضعوا الى جانبه موظفين كبارا. لكن كثيرا من الكنائس الانجيلية تقف ضد هذه الحركة كما أن مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يمثّل كنائس الشرق جميعها كان قد أصدر بياناً لاهوتياً مبنياً على العقيدة المسيحية ضدّها.
هذا يعني أن قرارات ترامب بشأن القضايا العربية من القدس الى الجولان وقريبا الى الضفة الغربية ومزارع شبعا، وخططه لسلب المال العربي، ليست وليدة سياسة مؤقتة أو فوضى خلاّقة أو انعدام خبرة كم يحلو للبعض من عباقرة التحليل السياسي عندنا قوله. العكس تماما هو الصحيح، ذلك أن سيد البيت الأبيض جاء أصلا من صفوف تيارٍ إيديولوجي يؤمن بتفوق العرق الأبيض الجرماني، ومقتنع تماما برسالة تبشيرية دينية تجمع الانجيليين الجدد بإسرائيل، ويعمل على إضعاف كل العرب ( أكرر كل العرب) وكل أعداء إسرائيل حتى لو اقتضى الأمر حربا أو حروبا.
يزداد الأمر خطورة مع هذا الجنوح الكبير للحكومات والسياسات الإسرائيلية نحو اليمين المتطرف والخضوع للتفسيرات الدينية التي تعتبر أن جميع العرب والمسلمين والمسيحيين أعداء من المحيط الى الخليج الاّ من يخضع ومن يخدم الاستراتيجيات الإسرائيلية المقبلة.
يقوم في مواجهة ذلك تحالفٌ مقاوم، على رأسه الجمهورية الإسلامية الايرانية، ويبرز فيه خصوصا حزب الله وحماس والجهاد. جميع هذه الأطراف تستند هي الاُخرى الى قناعات دينية تفوق ربما قناعاتها الرديفة.
وقد كان لافتا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه كان قد عرّف الرئيس اللبناني ميشال عون في خلال استقباله له على أنه رئيس لبنان وممثل الشريحة المسيحية فيه. فروسيا البوتينية مهجوسة هي الأخرى بقضية المسيحية الارثوذوكسية في المنطقة وتعتبرها جسرا مهما لسياستها صوب البحار الدافئة.
نحن في لحظة خطيرة جدا إذا، ذلك أن على طرفي العداء، ثمة من هو مقتنع بأن الوقت قد حان لنهاية التاريخ عبر انتصار فكرته الدينية على الآخر، حتى ولو غلّفها بغلافٍ سياسي.
بمعنى آخر، لا يحلَمَنَّ أي عربي أو مسلم أو مسيحي بأن نتنياهو سيعود الى التفاوض لكي يعيد أي شبر من الأراضي المحتلة، أو ليقبل بقيام دولة فلسطينية، فهو لو عاد، فإنما ليُجبر العرب على التطبيع دون أن يقدِّم لهم أي شيء.
الذي عنده أي شك بذلك، فليقرأ كتاب نتنياهو:” مكان بين الأمم” حيث قال بوضوح منذ سنوات، ما ينفذّه اليوم حرفيا. الشيء الوحيد الذي تغيّر هو أن هذه هي المرة الاولى التي يجد فيها نتنياهو رئيسا أميركا مقتنعا تماما بفكرته الدينية ومستعدا لكل شيء لقيام الهيكل. سبقه الى ذلك فقط جورج بوش الأبن الذي كان قد بدأ هو الآخر بتنفيذ أفكاره التبشيرية عبر تدمير العراق.
حين تُصبح القناعات الدينية هي المحرّك للسياسات، فإن الحروب تقبع خلف الأبواب بانتظار شرارة الحريق.