سامي كليب: كتبتُ قبل فترة عن علاقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإسرائيل، فانبرى بعض جهابذة “محلّلي” الممانعة، ينتقدون ويشجبون. لكن ها هم أنفسهم قبل أيام يتبنَّون حرفيا ما كتبت حين تناولوا قضية تسليم روسيا رفات الجندي الإسرائيلي الى إسرائيل. لن أتوقف طويلا عند هذه المسألة، فهؤلاء يقولون الشيء وعكسه في أسبوع واحد، فيضللون فريقهم قبل تضليل الآخرين.
دعونا بالمقابل نبحث في مصالح روسيا، لكي نفهم ماذا حصل بالنسبة لرفات الجندي الإسرائيلي التي نقلها خبراء روس من سوريا الى إسرائيل:
• الرئيس فلاديمير بوتين يبحث عن مصالح بلاده قبل أي شيء آخر. وهو بذلك لم ولن يقف في ما بقي من صراعِ عربي إسرائيلي أو إيراني إسرائيلي مع طرف ضد الآخر. مصالحه مع العرب وإيران كبيرة جدا ومصالحه مع إسرائيل واللوبي اليهودي عبر العالم كبيرة أيضا. فلنتوقف عن المغالاة في الحديث عن تحالفات عضوية مع هذا الطرف أو ذاك. هو ساعد إسرائيل في التخلص من السلاح الكيماوي السوري، وسيساعدها في ابعاد إيران وحزب الله عن الأراضي السورية، وساعد دمشق في استعادة الجبهة الجنوبية دون تدخل إسرائيلي مباشر. الاجتماعات العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية الروسية هي شبه أسبوعية.
• الرئيس بوتين الذي نشأ في عائلة فقيرة، وترعرع في مساكن شعبية جماعية الى جانب عائلة يهودية رعته وعلّمته كثيرا من عاداتها وتقاليدها، يعرف التوراة جيدا ويستشهد بها حين يحتاج ذلك كمثل قوله مؤخرا حين سُئل عن ضم جزيرة القرم:” إن التوراة لا تسمح مطلقا بالتنازل عن أرض هي ملك لك”. وهنا الإشارة مهمة الى ان إسرائيل لم توافق على العقوبات الدولية على روسيا بعد ضمها القرم.
• يستند بوتين في سياسته المالية والإعلامية والدولية على دعم عدد من كبار رجال الأعمال والاعلام اليهود، وذلك بعد أن، نجح في إبعاد أو ترويض الجزء المتمرد منهم على سياسته. ولديه مستشارون روس يهود ناهيك عن السيطرة اليهودية المهمة على الاعلام الروسي وعلى قطاع مصرفي واسع.
• يعتقد بوتين أن تقاربه الكبير من إسرائيل يحقق له تأييدا من اللوبي اليهودي في أميركا وعبر العالم، حتى ولو أن هذا الاعتقاد لم ينجح دائما.
• ثمة قناعة إسرائيلية بالمقابل، بأن السياسة الأميركية مضطربة في الشرق الأوسط وأنه من الأفضل توسيع قاعدة التحالفات وربط خيوط أمان مع موسكو. فنقرأ مثلا لتشاك فريليتش مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق والباحث في جامعة هارفارد قوله: إن عملية تفكيك العلاقة الجزئية مع الشرق الأوسط بدأت في عهد باراك أوباما، وتسارعت في ظل دونالد ترامب، وإذا استمرت الأمور على هذه الحال فإن روسيا قد تحل محل أميركا في الشرق الأوسط.
• هناك مصالح كبيرة تربط روسيا بإسرائيل، فثمة مليون ونصف مليون يهودي من أصل روسي يعيشون حاليا في إسرائيل وهم مؤثرون جدا في القرار السياسي وفي تكوين طبيعة مجتمعية جديدة. وثمة تبادل تجاري روسي إسرائيلي يقارب ٥ مليار دولار ويتضمن أسلحة دقيقة وتكنولوجيا عاليا وتكامل علمي لا يوجد مثيل له بين روسيا وأي دولة عربية. كما أن بوتين قدّم للجالية اليهودية في روسيا ما لم يقدمه أي أمبراطور أو حاكم أو رئيس آخر منذ ما قبل الاتحاد السوفياتي حتى اليوم.
• صحيح أن بوتين أقام تحالفا استراتيجيا مع ايران، ودعم سوريا( رغم أنه حتى اليوم لم يذكر مرة واحدة أنه يدعم شخصيا الرئيس بشار الأسد)، وصحيح أيضا ان الجيش الروسي قاتل في خنادق مشتركة مع حزب الله ومع القوات الأخرى التي استقدمتها ايران الى سوريا، لكن من السذاجة التفكير بأن الرئيس الروسي حليف أو شريك حقيقي لحلف ” المقاومة والممانعة”. هو لذلك لا يعترض مطلقا على ضرب إسرائيل لهذا الحلف على الأراضي السورية، ويضع خطوطا حمراء فقط على تعرّض الهجمات الإسرائيلية لقوات بلاده أو لتغيير المعادلة السياسية والأمنية في سوريا ويضع خطوطا أخرى ضد ضرب عصب الجيش السوري.
• في الوقت الذي كان بوتين يعزز دوره في سوريا وعلاقاته مع ايران وتركيا، كان هاجسه أيضا الانفتاح الكبير على دول الخليج ومصر والمغرب الكبير. ثمة نمو واضح في العلاقات الروسية السعودية مثلا كادت تصل الى تسلّم منظمة صواريخ S400 . تخلل ذلك زيارات متبادلة كبيرة الأهمية. فبوتين يريد جذب العمق العربي السُني اليه، لأن ذلك يساعد دوره ويساهم في ضرب الإرهاب ويعزز المصالح المالية والسياسية، والسعودية تشعر بقلق دائما كما إسرائيل وغيرها من تقلبات الدور الاميركي حيالها.
وقد كان واضحا في خلال زيارة العاهل السعودي الى موسكو ان صحيفة الخليج الاماراتية مثلا كتبت ان الزيارة هي:” أبرز رد على لعب أمريكا المزدوج بصورة مستفزة ” وصحيفة الشرق الأوسط السعودية قالت : “بما أن موسكو كانت أول دولة تعترف بالمملكة العربية السعودية، فيبدو أنها ستكون شريكة مهمة في مستقبل القرن السعودي القادم”. وهو ما قالته صحيفة لا تريبيون جويف الفرنسية المؤيدة لإسرائيل في باريس بشرحها لعلاقة بوتين باليهود وباسرائيل :” ان عصرا جديدا قد بدأ وان بوتين معجب الى حد الهيام باليهودية” .
نفهم من كل ما تقدم أن بوتين ينسج علاقات قوية مع الجميع، آملا في توسيع دور بلاده مقابل الأطلسي. من غير المنطقي اذا التفكير بأنه قدّم هدية الرفات الى إسرائيل بلا مقابل ، او بلا معرفة الدولة السورية.
يطمح بوتين لأن يلعب دورا وسيطا في عملية سلام مقبلة عربية إسرائيلية، وهو بالتالي لن يعترض على ” صفقة القرن” الأميركية وانما يريد تحسين شروطها، لقناعته بأن فرض أمر واقع على الفلسطينيين يعني اشعال الشرق الأوسط بحرب لن تنتهي. قناعة سيد الكرملين تقوم على معادلة تقول إن علاقاته القوية مع العرب وايران وحزب الله وإسرائيل، تسمح له بأنه ينجح حيث فشل الأميركيون، أو بأن يكون مُكمِّلا للدور الأميركي في تسوية شاملة في المنطقة….
أما أبطال وسائل التواصل الاجتماعي (أو قل التباغض الاجتماعي) الذين يعتقد كل منهم أن بوتين الى جانبه ضد الآخر، فهؤلاء لم ولن يعرفوا كيف يفكّر الرجل… فيا ليتنا كعرب نفكر بمصالحنا مثله، بدل التقاتل على أبواب الأمم الكبيرة. فنحن مقابل رفات الجندي الإسرائيلي لا نقدم سوى صورة جثة عربية متحركة (هذا اذا تحرّكت)، وقريبا قد نفاجأ كما عادتنا دائما بأن واشنطن وموسكو اتفقتا على تقاسم النفوذ على أرضنا وبدون أي عربي.
شعاري :
اعلاميون لا أبواق.