كتب جاد حيدر:
من يعود بالذاكرة أشهراً إلى الوراء، ويربط الأمور بعضها ببعض، يستطيع الوصول بسهولة مطلقة إلى الأسباب الحقيقية لما وصلنا إليه اليوم، على صعيد الرئاستين، الأولى والثالثة.
ففي حين يتقاتل المحلّلون وجهابذة السياسة في لبنان على التفتيش عن الأسباب و”العقد” الداخلية وراء عدم الوصول إلى تأليف حكومة جديدة، ورمي التهم والتهم المضادة على رئيس الجمهورية تارة، والرئيس المكلّف تارةً أخرى أخرى، يبقى النكران الواضح من الجميع، للأسباب الخارجية التي تشكّل العائق الأكبر أمام أيّ حكومة جديدة، هو الأمر الأبرز.
نعود إلى ما بعد استقالة حكومة الرئيس الحريري نتيجة “ثورة ١٧ تشرين” وما تلاها من محاولات لتكليف شخصيات سنّية عدّة، باءت بالفشل نتيجة رفض الحريري ذاته تكليف أي شخصية من الطائفة السنيّة غيره، فأطاح ببهيج طبّارة وبسمير الخطيب وبغيرهما، إلى أن كُلّف الرئيس حسّان دياب واستطاع تشكيل حكومة واجهت، في ستّة أشهر، مختلف أنواع التحديات والصعوبات والعقبات، إضافة إلى حرب مفتوحة من الرئيس الحريري وجماعته عليها.
وبعد استقالة حكومة الرئيس دياب عقب الإنفجار الدموي في مرفأ بيروت، عادت لعبة التكليف إلى الواجهة، وبالفعل تمّ تكليف السفير مصطفى أديب بعد معاناة ومحاولات عدّة، ليعود، وبضغط من الرئيس الحريري نفسه، ويعتذر عن تأليف الحكومة، فأصبح حينها تكليف الحريري الذي طرح نفسه كحلٍّ وحيد وطبيعي في هذه المرحلة، أمراً واقعاً ولا مفرّ عنه.
كُلّف الرئيس الحريري “بالحلاش”، وبمسرحية بطلها فريق الثامن من آذار عبر كتله النيابية المعروفة، وتمسّك بهذه الورقة، وراح لأشهر يصول ويجول شرقاً وغرباً، لجسّ نبض الدول أوّلاً، والسعي إلى كسر الجليد المتراكم مع الدولة الأبرز ثانياً، صاحبة القرار والكلمة الفصل عليه، المملكة العربية السعودية، وبغض النظر عن كلّ ما سبق أن حصل مع الرئيس المكلّف في الرياض، وعن علاقته فيها، بدأت عقدة التأليف الفعلية من هنا.
فمع رفض المملكة العربية السعودية، وبغطاء دولي أميركي واضح، إعطاء أي إشارة إيجابية للحريري بإمكانيّة تأليف حكومة يشارك فيها جميع الأفرقاء اللبنانيين، وخصوصاً حزب الله، وعدم استقبالها له أو إرسال موفدين إليه، بحجّة عدم تدخلها في الشأن اللبناني الداخلي، بدأ الحريري معركة إيجاد الحجج والعراقيل الداخلية، للهروب من التأليف، والتي هي موجودة بالأساس وسهلة المنال عند كل محطة تأليف حكومة أو عند أي استحقاق دستوري، نظراً لطبيعة النظام في لبنان.
وهكذا بات الإنقسام اليوم بين الرئاستين الأولى والثالثة، بأبشع حلله، عبر نشر مراسلات داخلية وفضح اجتماعات سرية وتسريب معلومات، وبات اللعب على المكشوف، لعرقلة التأليف. أما الأسباب، فحتماً مجهولة وباطنية وغير معلنة، وحين يأتي الضوء الأخضر الخارجي، سيكتشف اللبنانيون أنّ لا عقد داخلية ولا من يحزنون، والرئيس برّي كفيل بحلّها إن وجدت؛ أمّا عقدة التأليف فخارجية بالمئة مئة، والأشهر المقبلة كفيلة بإثبات ذلك.