كلّما تبرّأ رياض سلامة من المسؤوليّة اشتدّ الخناق حوله أكثر. لكنّه لا ييأس. وأمام كل الدعاوى المرفوعة ضده، والتي تضرّ بسمعة المصرف المركزي كما بسمعة لبنان، لا يزال يتمسّك بمنصبه، غير آبهٍ بما يشكّله ذلك من عواقب على البلد. لكن سلامة ليس وحده المنفصل عن الواقع. كما حلفاؤه السياسيون، كذلك حلفاؤه الماليون. جمعية المصارف، بمقدار تورطها، بمقدار ما تسعى إلى تبرئة نفسها من أيّ مسؤولية. بيان طويل دبّجته للوصول إلى هذا الهدف، لكنها لم تجب فيه عن سؤال أساسي: من أجبرها على توظيف النسبة الأكبر من أموال المودعين في مصرف لبنان، سوى الجشع؟
رياض سلامة لا يستحي. مستعد لتدمير البلد أكثر وأكثر، لكنه يأبى أن يتحمّل مسؤولية فشله في أداء وظيفته. لا يمكن لأي حاكم مصرف مركزي في العالم أن يستمر في منصبه، بعدما فشل في حماية الاستقرار النقدي. لكن سلامة يمكنه. لا يمكن لأي حاكم مصرف مركزي في العالم أن ترفع ضده دعاوى قضائية ويستمر في منصبه، لكن سلامة يمكنه، لأنه يعتبر أن كل ما يجري هو «ضجة قضائية» و«حملات سياسية وإعلامية ضد مصرف لبنان ومصداقيته»! إلى هذه الدرجة، لا يزال سلامة منفصلاً عن الواقع.
غيره، حتى لو كان بريئاً من التهم المنسوبة إليه، لا يترك مجالاً لأن يؤثر مسار القضية على المصرف المركزي وعلى الدولة. يترك منصبه ويتفرغ للدفاع عن نفسه. لكن سلامة مختلف. هو لا يكتفي برفض تحمّل المسؤولية، بل يستغرب التشكيك بمصداقيته حتى!
مع ذلك، فإن الواقع يختلف عما يتخيّله سلامة. في الواقع، وبعدما ادّعت القاضية غادة عون على سلامة أول من امس (إضافة إلى مصرف «سوسيتيه جنرال»)، وبعد الدعاوى في سويسرا وبريطانيا، تتحضّر مؤسسة Accountability Now السويسرية (تقول إن هدفها «دعم المجتمع المدني اللبناني في الوصول إلى وضع حد لتهرّب المسؤولين من العقاب») لرفع دعوى ضد رياض سلامة في باريس. وهي عمدت إلى تحضير ملف يتعلق بكل العمليات المالية التي أجريت، آملة أن يتم تجميد الأصول التي يملكها سلامة في فرنسا، وصولاً ربما إلى فرض عقوبات عليه من السلطات الفرنسية.
الإعلان عن دعوى قضائية جديدة ضد سلامة في فرنسا
وفي السياق نفسه، كانت «ال بي سي اي» قد نقلت عن مصادر قصر بعبدا أن رئيس الجمهورية «قد يُقدِم على خطوة إجرائية بحق حاكم مصرف لبنان». لكن مصادر مطلعة اعتبرت أن أي خطوة يفترض أن تأتي من الحكومة، التي دعاها الرئيس ميشال عون إلى «عقد جلسة استثنائية لاتخاذ القرار المناسب لحماية ودائع الناس، وكشف أسباب الانهيار وتحديد المسؤوليات، تمهيداً للمحاسبة واسترداد الحقوق». وعليه، فإن الحكومة مطالبة بالتصرف من موقع المسؤولية، التي لا يفترض أن تعيقها فترة تصريف الأعمال. أما رئاسة الجمهورية، فهي لا تزال توائم بين التحذير من إسقاط التدقيق الجنائي وضياع أموال اللبنانيين، وبين «اللحاق بالكذاب إلى باب الدار». لذلك، فهي ستنتظر لترى نتائج الاجتماع الذي عقد بين وزارة المالية ومصرف لبنان وشركة التدقيق.
إلى ذلك كان وزير المالية غازي وزني قد «بشّر» المودعين بـ«أن احتمال خسارة أموالهم موجود، لكنه ليس حتمياً». وشدد وزني، في حديث إلى وكالة «بلومبيرغ» على «ضرورة معالجة قضية النقد، لأنه لا يمكننا الاستمرار في سياسة تثبيت النقد أو نصف النقد كما يحصل في المنصة أو سياسة تعويم النقد، إذ يجب أن يكون هناك قرار بالتعويم أو المرونة في سعر النقد خلال المرحلة المقبلة»، لافتاً إلى أنه «بهذه السياسات يمكننا أن نقول إننا دخلنا فعلياً في تأمين وحماية ما تبقّى من ودائع المودعين في القطاع المصرفي اللبناني».
وبعد الضجة التي أثيرت بشأن التصريح، عاد وزني وغرّد عبر «تويتر»، معتبراً أن ما يتم تداوله عبر بعض وسائل الإعلام «غير دقيق». وقال إنه أوضح طريقة معالجة الخسائر المالية المحتملة عبر خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي وإصلاحه لاستعادة أموال المودعين.
إلى ذلك، كانت لافتةً عودة جمعية المصارف إلى اعتماد سياسة «اكذب ثم اكذب، إلى أن يصدّقك الناس». وفي بيان سعت فيه إلى تبرئة نفسها من كل ما يصيب البلد واللبنانيين والمودعين، قالت إنه «هال أعضاء الجمعية الحملة التي يتعرّض لها القطاع المصرفي، والتي أصبحت كقميص عثمان، يلجأ إليها معظم أهل السياسة عند اشتداد الأزمة، علّهم، في ما يفعلون، يعتبرون أنهم يقدّمون ما يُغني عن إظهار الحقيقة وكشف أسباب ما حلّ ويحلّ بالبلاد». وأسهبت في عرض بعض «الحقائق» ومنها:
– ليست المصارف هي التي كانت تتعمّد، في كل بيان وزاري منذ قرابة ثلاثين عاماً حتى تاريخه، التأكيد على تثبيت سعر العملة الوطنية.
– ليست المصارف هي مَن كان يحثّ الدولة على الاستدانة المتنامية من الأموال المودعة في المصرف المركزي.
– ليست المصارف هي مَن كان يصدر قرارات وقوانين سلفات الخزينة التي لم نشهد يوماً إعادتها إلى الحساب المركزي.
– ليست المصارف هي مَن كان يحدّد أطر سياسات الدعم ولا الإنفاق على قطاع الطاقة، كما على سواه من القطاعات.
– بفضل المصارف، تمكّنت الدولة من توفير الرواتب لكامل فئات القطاع العام.
– ليست المصارف هي مَن رسم سياسات الهدر وأقرّ السياسات الضريبية والجمركية غير المسؤولة، ولا هي مَن أصدر قرارات التوظيف العشوائي في الدولة، ولا هي مَن راكم العجز في ميزان المدفوعات، ولا مَن حجب الرؤية الاقتصادية والتخطيط السليم عن الدولة.
– المصارف ملتزمة، وتلتزم دوماً حقوق المودعين في الحصول على ادخاراتهم، وهي تؤكّد أنه فور إعادة الدولة الأموال المستدانة من المصرف المركزي، سيكون في مقدورها المباشرة بإعادة الحقوق الى أصحابها»…
في بيانها الطويل، لم تجد الجمعية أي مسؤولية على المصارف، فقالت: «باختصار، إن الأزمة السياسية، وما أحدثته من تعطيل وفراغ، تبقى المسبّب الرئيسي للأزمة المالية والمصرفية في لبنان».
قبل التسعينيات، كانت المصارِف تحتفظ في الخارج بأكثر من 70% من الودائع بالعملات الأجنبيّة
هكذا ببساطة، تبيّن للجمعية وبموضوعية كاملة أن المصارف تُظلم حين تتهم بالتواطؤ على إفقار البلد. لكن فاتها في البيان الطويل أن توضح للرأي العام أن لا سبب لوضع كل استثماراتها في سلة مصرف لبنان والمخاطرة بأموال المودعين، سوى الجشع. فعجز وفشل السياسات الاقتصاديّة والماليّة والنقديّة التي اعتمدت منذ أوائل التسعينيات، وسوء الإدارة والهدر في الوزارات والمؤسّسات العامّة طوال تلك الفترة، لا يمكن أن يُعفي أو يُخفِّف من مسؤوليّات المصارف في إساءة إدارة مخاطر الائتمان والسيولة والملاءة وإساءة الأمانة.
قبل التسعينيات، كانت المصارِف تحتفظ بأكثر من 70 في المئة من ودائع الناس بالعملات الأجنبيّة لدى المصارف المراسلة في الخارج. وباستثناء نسبة الـ 15 في المئة من هذه الودائع بالعملات الأجنبيّة، التي فرضها عليها سلامة كتوظيفات إلزاميّة يُقال إنّها تبلغ حالياً 16.2 مليار دولار، لماذا أودعت المصارف لدى «المركزي» مبالغ إضافيّة حرّة من أي قُيود قيمتُها حاليّاً 61 ملياراً من ودائع الناس بالدولار، لم يُوظّف منها مصرف لبنان سوى 5.7 مليارات دولار كسندات دين بالعملات الأجنبية («يوروبوندز»)؟
لقد كانت رساميل المصارف مُجتمعة حوالى 141 مليون دولار في أوائل التسعينيات، فكيف وصلت إلى 33 ألف مليار ليرة، جُزءٌ منها بالدولار، ويُضاف إليها قيمة إعادة تخمين موجوداتها الثابتة؟ فمن أين استحصلت على هذه الزيادة الهائلة؟ هل باستثماراتها في الخارج التي كلّفَتها خسائر كبيرة جرى تغطيتُها «بهندسات ماليّة» نظَّمها لها مصرف لبنان من المال العام ومن ودائع الناس بالدولار؟
الواضح أن معظم أرباح المصارف على مدى تلك السنوات أتت من فوائد وعوائد على سندات الخزينة وعلى اليوروبوندز.
ثم، كم يبلغ حجم الودائع التي جرى تحويلها إلى الخارج بعد 17 تشرين الأول 2019، وخصوصاً خلال فترة الإقفال طوال الأسبوعين الأوّلين بعد 17 تشرين؟ وكم تبلغ قيمة الودائع التي حوّلتها إلى الخارج، لغير أغراض تجاريّة، لغاية آخر 2019 وخلال الـ 2020، بالرغم من اتخاذها قراراً ذاتياً بقيود («كابيتال كونترول») استنسابيّة على التحويلات والسحوبات؟
كل هذه الأسئلة والحقائق، التي لا يمكن لبيان المظلومية أن يغطّيها، يُفترض أن يجيب عنها التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وحسابات المصارف، ولذلك تحديداً يستشرس «حزب المصرف» في سعيه إلى تطيير مشروع التدقيق.