كتبت صحيفة ” الأخبار ” تقول : يستسيغ البطريرك بشارة الراعي أن يأتيه المديح من عرب التطبيع. يعيد ويكرر أن حياده صار على الأبواب. يتحمّس فيقول ما يُضمر. ليس الناس هم من يهتم لهم “الراعي الصالح” بل من جوّعهم. تماماً كسعد الحريري يتصرف البطريرك. يزايد عليه في تبنّي مطالب الثورة ثم يحمي رياض سلامة. يزايد عليه بالتمسك بالمبادرة الفرنسية ثم يتخلى عن أول بنودها. هذه المرة، حان دور التدقيق الجنائي: “سيدنا” ليس مرتاحاً لهذا التدقيق، ولذلك وجب إنهاؤه، أو على الأقل تأجيله، إلى حين وصول سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة. هذا تماماً ما يريده الحريري أيضاً. يصدف أن التقت الأهداف
خذوا الإشارة الأوضح من فم البطريرك بشارة الراعي. بدلاً من اللف والدوران وعرقلة التدقيق الجنائي كل يوم بهذه الحجة أو تلك من قبل جيش المتضررين الخائفين من فضح أنفسهم، حسمها الراعي بعدم جواز التدقيق في حسابات مصرف لبنان قبل تأليف الحكومة. هكذا ببساطة، قرّر الراعي مجدداً قلب الطاولة في وجه رئيس الجمهورية الذي “يخوض” حرب التدقيق في حسابات مصرف لبنان بوصفها “معركة تحرر” لا بد منها لمعرفة سارقي أموال الناس وفضحهم.
الراعي الذي يرفع الصوت مطالباً بتأليف الحكومة، لم يعد يوارب في إعلان انتمائه السياسي، فلا يتردد في تحميل مسؤولية عرقلة التأليف للرئيس ميشال عون وحزب الله. وحتى لو اعتبر، من موقع “الحياد”، أنه “حريّ بجميع المعنيين بموضوع الحكومة أنْ يكُفّوا عن هذا التعطيل”، إلا أنه سرعان ما يصوّب سهامه في اتجاه واحد، داعياً إلى الكفّ عن “اختلاق أعراف ميثاقية واجتهادات دُستورية وصلاحيات مجازية وشروط عبثية، وكل ذلك لتغطية العُقدة الأم، وهي أن البعض قدّم لبنان رهينةً في الصراع الإقليمي/الدولي”. على المنوال نفسه غزل المفتي عبد اللطيف دريان في رسالته بمناسبة بداية شهر رمضان المبارك، معتبراً أن “هناك أيادي خبيثة تعمل في الخفاء على عرقلة الجهود العربية الشقيقة المشكورة، وعلى إفشال المبادرة الفرنسية، وتحاول القيام بعملية ابتزاز سياسي لا مثيل له”.
هذا التموضع الذي يزداد وضوحاً، لا يستوي، بالنسبة إلى الراعي ورعاته الإقليميين والدوليين، من دون دعم واضح لرياض سلامة. وللتذكير، فإن البطريرك سبق أن رمى الغطاء الكنسي على سلامة، معلناً، قبيل انطلاق انتفاضة 17 تشرين الأول، رفضه القاطع المسّ به، لأن هذا الأمر سيسرّع الانهيار، داعياً إلى الإصلاح بدل التلهّي بشنّ هجمات على من يعمل لخدمة بلده و”زرع الطمأنينة لسنوات”.
بعد مرور عامين، لم ينتبه الراعي المشغول بالحياد إلى أن الطمأنينة كانت وهماً، وأن من زرعها كشف عن وجهه. نيافة الكاردينال: من تحميه ومن جعلك تصدق أن الليرة بخير، سرق أموال الناس وخان الأمانة وفشل في حماية النقد. لكن مع ذلك، اكتشف الراعي أن “جدية طرح التدقيق الجنائي هي بشموليته المتوازية لا بانتقائيته المقصودة”. وهذا قول حتى “حركة أمل” لم تقله. علي حسن خليل نفسه عندما تحدث منذ يومين عن التدقيق الجنائي، أقرّ، في معرض إصراره على التوازي، بأن يبدأ التدقيق في مصرف لبنان. لكن الراعي عاد وجلّس خطابه، قائلاً: “أصلاً، لا تدقيق جنائياً قبل تأليف حكومة”. هذا الموقف “التاريخي” ردّ عليه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون مساء أمس بجملة مقتضبة عبر صفحته على “تويتر”، من دون أن يسمّي البطريرك. قال عون: “الفاسدون يخشون التدقيق الجنائي، أما الأبرياء فيفرحون به”. وهو بذلك، شمل الراعي في بوتقة الفاسدين الساعين إلى تطيير التدقيق – بداية الحل الذي لا يمكن لحريص على أموال الناس وتعبهم أن يرفضه.
وفي السياق نفسه، اعتبر نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أن “التدقيق المالي الجنائي هو موضوع منفصل عن ملف التشكيل”. وقال، في مقابلة عبر “المنار”، إن “الحكومة السابقة هي التي أقرّته ويجب أن يتابع بشكل طبيعي، وعندما نذهب إلى الحكومة تتسهل أمور كثيرة، لكن التدقيق الجنائي ليس مقابل الحكومة”.
أصدر الراعي الحُكم أمس، لكن هذا ليس حُكمه. هذا حكم سلامة والمنظومة السياسية المالية والخارجية التي تستغل منصبه لتمرير أجندتها، فيما هو منتشٍ بتحول بكركي إلى محطة للزائرين الذين يزيدون من قسمة اللبنانيين، ثم يهنّئون سيّدها على حياد مفصّل على قياسهم، فيظن هو أن “الالتفاف الداخلي والخارجي حول مشروع حياد لبنان يتزايد”.
هل حقاً يطلب الراعي أن يرأس سعد الحريري الحكومة ليقود جيوش التدقيق بنفسه؟ ألم ينتبه بعد أن التدقيق هو أحد أسباب تعنّت الحريري ورفضه تأليف الحكومة، أم أنه من أجل هذا تحديداً أراد أن يعلن نعي التدقيق في مصرف لبنان؟ كان حريّ به أن يقول “لا تدقيق جنائياً” فقط. هكذا يكون عضواً فاعلاً في حزب المصرف، بدلاً من المواربة وإعطاء موقفه بعداً حريصاً على تأليف الحكومة، وحريصاً على “شباب الثورة وشاباتها من التهويل واليأس”. ينتقد المسؤولين بالجمع، مؤكداً أن “قدرنا أن نناضل ونكافح لاستعادة لبنان من مصادريه وخاطفيه”، لكنه لا يرى سوى طرف واحد من الخاطفين. يتجاهل أن الحريرية، وسلامة أبرز عناوينها، هي على رأس الخاطفين.