عادت “الحركة”، التي “لا بركة” فيها حتى إثبات العكس، تتصدّر المشهد السياسيّ خلال اليومين الماضيين، مع زيارة وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية ديفيد هيل إلى بيروت، والجولة “المكوكية” التي قام بها على العديد من الفرقاء، من السلطة والمعارضة على حدّ سواء، وأثيرت حولها الكثير من “التكهّنات”.
وبالتوازي مع هذه الزيارة، اتّجهت الأنظار كذلك إلى محطّة خارجية جديدة لرئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري، أضيفت إلى “مسلسل” جولاته التي شملت عواصم عدّة منذ تكليفه حتى الآن، فيما كانت الوِجهة هذه المرّة روسيا، حيث حظي بلقاء مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لكن “عبر الهاتف”، ما أثار بعض الانتقادات.
وبين الزيارة الأولى التي طغى على محادثاتها المُعلَنة على الأقلّ ملفّ ترسيم الحدود البحرية، والزيارة الثانية التي لا يُتوقَّع أن تحمل “جديدًا نوعيًا”، مختلفًا عن “سفرات” الحريري السابقة، بدا أنّ الملفّ الحكوميّ نزل من “سلّم الأولويات”، بعدما تبدّدت الأجواء “الإيجابية” التي تمّ ضخّها قبل أسبوع، لصالح “غموض” غير بنّاء.
ولعلّ “أسوأ” ما في الأمر، بالتوازي مع تراجع الاهتمام بالحكومة، يتمثّل في عودة “المناكفات” السياسيّة على كلّ الأمور، الجوهريّة منها كما “السطحيّة”، إذ التهت البلاد بسجالاتٍ لا تنتهي، تبدأ من مرسوم توسيع الحدود الذي بدا “جدليًا”، ولا تنتهي عند “إشكاليّة” لقاء الحريري وبوتين “الهاتفيّ”، وكأنّه “عقدة العقد”!
ترسيم الحدود أولاً!
بالنسبة إلى زيارة ديفيد هيل إلى بيروت، فقد كان من الطبيعي أن تحظى باهتمام “استثنائيّ” نظرًا لهوية الضيف، الذي يُعَدّ ثالث أعلى مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، والذي بات “خبيرًا” في الواقع اللبناني، بعدما واكبه طويلاً، وهو ما تجلى بسلسلة اللقاءات التي عقدها مع معظم المسؤولين، ولو استثنى البعض بحجّة “العقوبات” المفروضة عليهم أميركيًا.
ولعلّ أهمية الزيارة تكمن أيضًا في “توقيتها”، في ظلّ شبه “العزلة” التي يشهدها لبنان، خصوصًا أنّها الأولى من نوعها، بهذا المستوى، منذ فترة طويلة، “انكفأ” فيها الأميركيّون وغيرهم بشكل واسع عن لبنان، علمًا أنّ هناك من اعتبر أساس حدوث الزيارة أمرًا إيجابيًا، بما “يدحض” الفرضيّة القائلة بأنّ لبنان ليس “على أجندة”إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، والتي يتلطّى خلفها الكثيرون.
لكن، مع أنّ الزيارة طرحت الملفّ الحكوميّ في صدارة “عناوينها”، علمًا أنّ الخارجية الأميركية استبقت حصولها ببيانٍ أعلنت فيه أنّ هيل سيضغط على المسؤولين اللبنانيين لتشكيل حكومة قادرة وملتزمة بتنفيذ الإصلاحات، إلا أنّ هناك من يعتقد أنّ ملفّ الحكوميّ لم يكن في صلب المباحثات، بعيدًا عن لغة “التأنيب” التي ينتهجها الغرب منذ فترة إزاء لبنان، من دون أن تجدي نفعًا حتى اللحظة على الأقلّ.
ويرى كثيرون أنّ ملفّ الحكومة جاء بمثابة “غطاء” للقضيّة الأساسيّة التي أراد المسؤول الأميركي بحثها في لبنان، والمرتبطة بملف ترسيم الحدود مع إسرائيل، في ضوء المفاوضات “المُعلَّقة”، وفي ظلّ مخاوف واشنطن من “تصعيد” قد يقدم عليه لبنان في حال “تثبيته” مرسوم توسيع الحدود الذي أثار العديد من النقاشات في الأيام الأخيرة، وإن غلب الرأي القائل بأنّ من شأنه “تقوية” موقف لبنان، وليس العكس.
وقد يكون ما رشح عن اجتماع هيل مع الرئيس ميشال عون يكفي للتأكيد على هذا الرأي، علمًا أنّ دوائر الرئاسة حرصت على القول إن ملف الترسيم تصدّر النقاشات، في حين أنّ الكثير من المواضيع التي تطرق إليها هيل في تصريحه من منصّة بعبدا لم تتمّ إثارتها أصلاً، ولا سيما ما يتعلق بـ”حزب الله”، الذي قالوا إنّه لم يرِد ذكره مرّة خلال اللقاء، في حين تمّت إثارة الموضوع الحكوميّ، لكن دون الغوص في التفاصيل.
لقاء “عبر الهاتف”!
لم تنجح زيارة ديفيد هيل إلى لبنان، على أهميتها وحساسيتها، والنتائج المتوخّاة منها على مختلف الصُّعُد، في “خطف الأنظار” من زيارة رئيس الحكومة المكلَّف سعد الحريري إلى العاصمة الروسية موسكو، وإن اتفق العارفون على أنّها بدورها لن تحمل جديدًا على خطّ تشكيل الحكومة، وهي المهمّة التي ينبغي أن تُنجَز داخل لبنان، وليس في العواصم الخارجيّة.
لكنّ المفارقة، على خطّ هذه الزيارة، تمثّلت في التركيز المُبالَغ به على “الشكليّات” التي أحاطت بها، بين المحسوبين على الحريري الذين ارتأوا “التهليل” لما وصفوها بـ”الحفاوة” التي لقيها بعدما استُقِبل بصفة “رئيس حكومة لبنان”، وخصومه الذين وجدوا في المقابل، في تكبّده مشقّة السفر، من أجل “اتصال” يمكن أن يحصل معه أينما كان، مادة مثاليّة لـ”السخرية”.
بالنسبة إلى خصوم الحريري، فإنّ مبدأ الزيارة يبدو “مثيرًا للجدل”، إذ على رئيس الحكومة المكلَّف أن يمضي وقته في محاولة تشكيل الحكومة، بدل التنقّل بين العواصم، في زيارات أصبحت أقرب إلى “شمّ الهوا”، بحسب وصفهم، خصوصًا بعدما ثبُت أنّها لا تقدّم ولا تؤخّر، طالما أنّ “عقدة” التأليف في مكانٍ آخر، وطالما أنّه “يحتجز ورقة التكليف في جيبه”، بحسب ما يتّهمه “العونيّون” مثلاً.
أما “الطامة الكبرى” في زيارة الحريري إلى موسكو، وفقًا للخصوم، فتكمن في أنّها لم تثمر أكثر من لقاء “هاتفي” مع بوتين، كان بالإمكان أن يحصل عليه من بيروت، علمًا أنّ “مستقبليّين” أوضحوا أنّ هذا الأمر “بروتوكولي”، وأنّ الحريري كان على عِلم مُسبَق به، خصوصًا أنّ بوتين تلقى للتو الجرعة الثانية من فيروس كورونا، وهو “يلتقي عبر الهاتف” جميع زوار موسكو هذه الأيام.
وفيما يستدلّ “المستقبليّون” على ذلك بما حصل مع رئيس الحكومة الليبية عبد الحميد الدبيبة، الذي عومِل بالطريقة نفسها خلال زيارته إلى موسكو، يلفتون إلى أنّ الزيارة حملت أكثر من رسالة وعِبرة على فريق “العهد” قراءتها بتمعّن، قد يكون أقلّها التعامل مع رئيس الحكومة المكلَّف بوصفه “رئيس حكومة لبنان”، وهو ما يعكس النظرة الدوليّة إلى الحريري، رغم أنّ هناك في لبنان رئيس حكومة آخر لا يزال في سُدّة المسؤوليّة، ولو من بوابة تصريف الأعمال.
ومع أهمية “الشكل”، يتحدّث “المستقبليّون” عن أهمية للزيارة في المضمون، حيث يؤكد الحريري مرّة أخرى قدرته على “توظيف” علاقاته الدولية لصالح خدمة لبنان وقضاياه، علمًا أنّ البحث مع الروس شمل، إلى جانب الملف الحكوميّ، قضايا اجتماعيّة واقتصاديّة ينبغي أن تولى أهمية استثنائية، في ظلّ الواقع “المأسويّ” الذي يشهده لبنان في هذه المرحلة، بعدما ضاقت قدرة المواطنين على الصمود والتحمّل.
الحكومة “أسيرة المراوحة”
هكذا، انشغل اللبنانيون خلال اليومين الماضيين بسجاليْن جديديْن، يحملان ربما الكثير من “المتعة”، أولهما زيارة الحريري إلى موسكو، التي أثارت سيلاً من الانتقادات والنكات عبر وسائل التواصل، التي أوحت وكأنّ البلاد في أحسن حال، ولا شيء يدعو للقلق.
أما الثاني، فكان ملف ترسيم الحدود، على وقع زيارة هيل، ولكن قبلها المرسوم “الجدليّ”، الذي ارتأى رئيس الجمهورية “التريّث” في توقيعه، فاتُهِم من الخصوم والمتربّصين، بالبحث عن “مكاسب سياسية” على حساب قضية “وطنية” في المقام الأول.
وبين هذا وذاك، بقي ملفّ الحكومة أسير المراوحة التي أصبحت قاتلة، بين الشروط والشروط المضادة، لدرجة أنّها تكاد تصبح “آخر همّ” القابعين في السلطة، فيما البلاد تنهار، والفقر يزداد، والجوع يقرع جرس الإنذار..