غيّر «زمن» الكورونا كثيراً من العادات والممارسات، ومع المحظورات التي فرضها الفيروس، بات كل شيء يجري «عن بعد»، من شراء الناس لحاجياتهم والعمل والتعلّم… إلى ممارسة الحياة من خلف شاشة الحاسوب.
تفشي الفيروس فرض حجراً صحياً انتقل معه الناس من العالم الواقعي إلى الآخر الافتراضي. ولعلّ أكثر «الممسوسين» بهذه التجربة هم طلاب المدارس الذين يجبرون على الجلوس يومياً ساعاتٍ طويلة أمام الشاشة لتلقي دروسهم، ما يحمل تداعيات قد تكون، في بعض الأحيان، «مدمّرة لصحة المراهقين»، على ما تقول اختصاصية الصحة النفسية الطبيبة كريمة جابر. وهذه «الصحة» ليست جسدية فحسب وإنما نفسية أيضاً، وكلما طالت مرحلة التعلّم عن بعد، كانت الآثار أكثر عمقاً. البداية من صحة الجسد، حيث يتسبب المكوث أمام الشاشة بـ«مشاكل في العيون ونقص في الفيتامينات وآلام في المفاصل والعظام كالرقبة والظهر والأكتاف والأصابع والصداع والزيادة في الوزن والخمول، إضافة الى اضطرابات النوم نتيجة التعرض للضوء والأشعة المنبعثة من الأجهزة». أما ما يتعدى تلك العوارض، فهو ما يحمله هذا التعرض على المدى الطويل، إذ إن «الحرارة الناتجة من الحاسوب يمكن أن تؤثر سلبًا على الخصوبة وخصوصاً لدى الذكور».
تدعو جابر إلى إشراك العائلة في علاج تلك الآثار من خلال «حث المراهقين وتشجيعهم على الحركة والابتعاد عن الشاشة في حال لم يكن ذلك ضروريًا، مع أخذ قسط من الراحة باستمرار والجلوس بطريقة سليمة كي لا تتحول الأوجاع من مؤقتة الى مزمنة».
أما نفسياً، فلا تجد جابر في هذه التجربة سوى «رزمة» من السيئات. وهو ما يختبره المراهقون أصلاً، ومنهم قاسم موسى، ابن الستة عشر عاماً. فمنذ ستة أشهر يعيش موسى حجراً مضاعفاً، بسبب فيروس كورونا وبسبب متابعة دروسه «أونلاين»، ما ساقه نحو «الاكتئاب. فقد تعبت نفسيًّا. الجلوس بمعدل خمس ساعات يوميًّا أمام الشاشة للتعلم مزعج الى حدّ كبير، تماماً كالحجر الذي أجبرنا على التزام منازلنا».
مشاكل في العيون ونقص في الفيتامينات وآلام في المفاصل وتأثير على الخصوبة
عبثاً، تحاول إيجاد إجابة مختلفة لدى من يشبهون قاسم: الرتابة نفسها والتعب والكآبة. وهذا «مبرّر»، بحسب الباحثة والاختصاصية التربوية رنا حمود، إذ إن «مهارات المراهق الاجتماعية والتواصلية قد أصابها خلل، وزادت من حالات الانطواء وانعدام الثقة بالنفس، فبات المراهق يلجأ الى أساليب غير سليمة لإشباع النقص والتخلّص من الروتين، فيمضي وقته، مثلاً، منشغلاً بالألعاب الإلكترونية غير المفيدة وبتصفح مواقع التواصل الاجتماعي بشكل غير مقنّن، ما يبعده عن تنمية شخصيته وتطوير ذاته، ويجعله عرضة لمقارنات خاطئة لنفسه بالآخرين وبنمط حياتهم غير الواقعي في غالب الأحيان». وهذا يؤدي الى «جرّ المراهق إلى حالات من الاكتئاب والتوتر والعصبيّة الزائدة وعدم الرضى عن النفس وعن الأهل والمحيط».
بالدليل، تؤكد حمود هذه الخلاصة انطلاقاً من «الفوارق» التي لاحظتها من خلال عملها في المدارس بين التلامذة في المراحل الابتدائية والمتوسطة، إذ «إن الأهل والمدرسين لم يواجهوا صعوبات في المتابعة اليومية مع المجموعة الأولى، في حين أنهم يعيشون مع الثانية معاناة تبدأ بالعمل لإلزام الأولاد بمتابعة الدروس ولا تنتهي بحثّهم على التصرف بشكل جدّي ومسؤول». وشددت حمود على أهمية إيجاد الحلول المناسبة للتخفيف من الأعباء النفسية عن المراهقين، مشيرة إلى دور الأهل الأساسي باحتواء الأولاد من خلال الحوار المستمر والتوعية اللازمة والدعم والتوجيه الصحيح على الصعيدين النفسي والأكاديمي.
ما دون تلك المساعدة، قد تكون الآثار المخفيّة للجلوس ساعات أمام الشاشة أخطر مما يتصوّره الأكاديميون والاختصاصيون. وفي ظل النقص في الإحصائيات لتقييم تلك الآثار، لا تجد حمود سوى القول بأن «الآتي أعظم»