يوم نصّ الدستور على تأليف الحكومة باتفاق رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، لم يأتِ على ذكر مكانه، ما خلا افتراضاً طبيعياً ان المراسيم تصدر من القصر الجمهوري. ما يجري اليوم يجعل التأليف بيتاً بمنازل كثيرة: بعبدا، بيت الوسط، عين التينة، البياضة، بكركي حتى
ليست هذه وحدها منازل بيت تأليف الحكومة. لا يفوت احد المنصة التي يخاطب منها الجميع الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، ولا باريس والرياض والقاهرة وابوظبي، ذهاباً الى موسكو، وعودٌ منها الى دمشق. كل المنازل باتت بيت تأليف الحكومة اللبنانية الذي يتعذر حصوله، دونما ان يُعرف السبب والمسبِّب.
في تسعينات القرن الفائت، كان لبيت تأليف الحكومة منزل واحد فقط، بباب واحد للدخول اليه والخروج منه. لا منازل اخرى، ولا ابواب رديفة. هو عنجر. اما التأليف، فكان يحصل كالآتي:
اعتاد الرئيسان الياس هراوي ورفيق الحريري على طريقة متشابهة في تأليف حكومات الحقبة تلك. كلاهما يطرح على الآخر اسماء، ويصرّ على التمسك ببعضها وفي حقائب محددة حتى، فيوافقه شريكه او يرفض. يتشعب الجدل الى حد ان تنشأ عن الاسماء المتداولة بينهما لائحتان، يتشبث كل منهما باحداهما. عندما يستعصي اتفاقهما، يأتي اليهما مَن يحمل اللائحتين الى عنجر كي يعرضهما على اللواء غازي كنعان لتحكيمه، ومساعدتهما على الاتفاق. يستخرج عندئذ لائحة ثالثة يختارها هو بنفسه من الاثنتين، مضافاً اليها احياناً اسماء غير مدرجة في اي منهما تعنيه هو بالذات. تعاد اللائحة الثالثة الى الرئيسين المختلفين، فيُسلمان بها بلا تحفظ، ويصدران على الاثر مراسيمها.كان في وسع كنعان، مرجع الاحتكام، ان يفعل ما ليس في مقدرة اي من الرئيسين المنتخبين من مجلس النواب بطريقة او بأخرى ان يفعلاه.
مذ غادرت سوريا لبنان وأُفلِت الزمام في البلاد وفوضاها، لم يكن سوى ثمة مرجعي احتكام، ليس بينهما رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، وليس حتماً الدستور، بل رمزا الثنائي الشيعي: الرئيس نبيه برّي مفتياً للمشكلات السياسية والازمات الدستورية، ونصرالله بفضل فائض القوة لضمان استقرار الداخل امنياً ومذهبياً. في ذلك مغزى الكلام الرائج، انها مرحلة الشيعية السياسية التي يمثلها الثنائي. ذلك ما حصل بدءاً من انتخابات 2005، وصولاً الى اتفاق الدوحة عام 2008، ومنه الى عهد الرئيس ميشال عون عام 2016، الى الآن. ما يحلّه برّي يكفل نصرالله استمراره، وما لا يريد نصرالله الاضطلاع به يتولاه برّي، وما يخفق رئيس المجلس في اقناع المعاندين له يعكف الامين العام لحزب الله على اقناعهم به بطريقته.
هكذا توالى تأليف الحكومات خلال اكثر من عقد ونصف عقد من الزمن، كما امرار الاستحقاقات الدستورية والسياسية الاخرى.
اما ما يجري منذ ايام في جهود تأليف الحكومة، فلا سابق له. يوحي بأنه يريد ان يؤسس لمزيد من الاعراف. ثلاثة افرقاء يناقشون سبل اخراج التأليف من مأزقه، التيار الوطني الحر وحركة امل وحزب الله، من دون ان يكونوا معنيين في الاصل بالاستحقاق وبحكومة يُفترض انها من اختصاصيين لا مكان فيها للاحزاب. واثنان منهم هما التيار الوطني الحر وحزب الله لم يصوّتا للرئيس المكلف سعد الحريري تأليف الحكومة.
كلا المرجعين الدستوريين المختصين بمراحل التأليف، رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، في قطيعة كاملة منذ 22 آذار كما لو انهما غير مهتمين بما يجري، غير مستعجلين على التأليف. كلاهما واقف في الجانب المقابل للآخر، بينهما استحالة مبنية على تبادلهما كرهاً وبغضاً واهانات لا نظير لها، ما يحمل على الاعتقاد بأن احداً لا يتوقع جلوسهما معاً الى طاولة واحدة. بل يبدو مخجلاً لهما ان يفعلا ذلك اذا ابصرت الحكومة النور يوماً. رغم فارق الاجيال والتجربة السياسية المتفاوتة الاهمية والدور بين الرجلين، لم يعد ثمة قاسم مشترك واحد بينهما سوى المزاج الشخصاني، يتقدّم ما عداه اياً تكن التحديات والاخطار.
الاكثر مدعاة للغرابة حيال مشهد الاجتماعات تلك، ان اثنين من الاطراف الثلاثة هما التيار الوطني الحر وحركة امل لا يتبادلان الود والحرارة وإن جلسا الى طاولة واحدة، والاثنين الآخرين وهما حزب الله وحركة امل يتمسكان بتكليف الحريري الى اشعار آخر، لكن احدهما في مقلب معاكس للآخر من غير ان يختلفا او يتنافرا إن لم يُعدّ ذلك توزّع ادوار: حركة امل تدعم الرئيس المكلف وتمسك بيده خطوة تلو خطوة بشهادة مبادرة برّي وتسليم الحريري بها، وحزب الله يدعم رئيس الجمهورية وحزبه اللذين لا يريدان ندّهما على رأس الحكومة. العجب في ما يحدث، ان التيار الوطني الحر يجهر من الآن – وهو الى طاولة التفاوض على تأليف الحكومة وعلى التمثيل المسيحي فيها – بأنه لن يمنحها الثقة، بينما حليفه حزب الله غير معتاد إلا ما ندر على منح الحكومات الثقة، وهو محاور دائم للحريري ويختار بنفسه وزراءه.
رئيس مكلف عير قادر على تجاوز العقبات الداخلية ولا الخارج بات مقتنعاً بجديته
في مقابل الاحاجي هذه، ثمة رئيس مكلف يتفرّج كما لو انه بدل من ضائع. لا في الداخل قادر على تجاوز العقبات التي تواجهها مهمته، ولا الخارج بات مقتنعاً بجديته ورصانته في تحمّل المسؤولية، ما دام يعتبر انه وحده المعني بتأليف الحكومة. الى الآن لم يسعه إحداث ثغرة – وإن صغيرة – في الايصاد المُحكم الذي تجبهه به المملكة، المرجع الوحيد الذي يمكّنه من تأليف الحكومة، وايضاً من حمله على الاعتذار عن عدم تأليفها وإن لم يُرده. ما دام يحمل جنسيتها، تبقى وحدها – اياً يكن الآخرون – رئة تنفسّه. كذلك يفشل معها الوسطاء المتطوعون او المكلفون محلياً او عواصم.
احد هؤلاء الرئيس فؤاد السنيورة عندما زار السفارة السعودية متضامناً على اثر الضجة التي احدثتها تصريحات الوزير السابق للخارجية شربل وهبه في 19 ايار، مقترحاً على السفير وليد البخاري ان يزوره الرؤساء السابقون للحكومة الاربعة تأكيداً للتضامن معه، فأجابه بموقف غير مشجع، مؤداه ان لا حاجة لتحمّلهم هذه المشقة، بعدما كان زار في وقت سابق الرئيسين نجيب ميقاتي وتمام سلام وسيزوره هو (السنيورة) لاحقاً. تلك كانت اشارة صريحة لا لبس فيها الى ان ابواب السفير لا تزال مقفلة في وجه الحريري الذي اكتفى حينذاك ببيان استنكار ليس الا، مع ان البخاري استقبل في 19 ايار وفد تيّار المستقبل برئاسة عمّة رئيسه النائبة بهية الحريري، مُبرزاً بذلك بوضوح تام الموقف السلبي للمملكة حيال الحريري بشقيه الشخصي والسياسي.
«لقاء سُنّي» اليوم لدعم اعتذار الحريري؟
يعقد المجلس الإسلامي الأعلى اجتماعاً استثنائياً اليوم في دار الفتوى، يحضره رؤساء حكومات سابقون ونوّاب، يتقدّمهم الرئيس المكلف سعد الحريري الذي سيضع الحاضرين في مجريات عملية تأليف الحكومة، على أن يصدر عن الاجتماع موقف موحّد.
ولفتت مصادر إلى أن الحريري قد يطرح إمكان اعتذاره عن عدم تأليف الحكومة إذا تمّ تأكيد وصول مبادرة الرئيس نبيه بري إلى حائط مسدود.
المصدر: الأخبار