لم يظهر الكيان الصهيوني تجاهلاً واستخفافاً بقدرات أي بلد عربي كما يفعل مع سورية، وبالرغم من وجود تصريحات سياسية-عسكرية تعطي سورية بعضاً من وزنها “الحقيقي” إلا أنها تبقى نادرة ومتباعدة وعمومية… وكأن هناك اتفاقاً غير مكتوب في كيان العدو الصهيوني يُلزم الأفراد في مواقعهم المختلفة، وكل مؤسساته العسكرية والأمنية والسياسية والبحثية… على الإلتزام بهذه السياسة. صحيح بأن “التجاهل” من أهم أدوات الحرب النفسيّة، ولكنه سلاح يصيب باتجاهين، خصوصاً عندما تنهار الدعاية النفسية المبنية على التجاهل بشكل صارخ أمام الوقائع التي تثبت زيفها وكذبها… كما حدث مع حزب الله والمقاومة في غزة، ومع سورية ذاتها أكثر من مرة.
هذه بعض الإجابات عن اسئلة تهمنا جميعاً: مناورات العدو الصهيوني المكثفة، أهدافها ونتائجها؟ عند المقارنة بين كفاءة الدفاع الجوي السوري ودفاع جو العدو، ماذا يخبرنا الميدان؟ لماذا القلق الروسي والخوف الصهيو-أمريكي؟.
*مناورات اللحظة الأخيرة:
منذ بداية هذا العام، نفذ كيان العدو عدداً كبيراً جداً من المناورات العسكرية، تمحورت حول ثلاثة أسئلة كبرى:
1-كيفية التعامل مع التحدي الذي يفرضه الدفاع الجوي السوري.
2-كيفية مواجهة صواريخ محور المقاومة، وعلى أكثر من جبهة بالاستعانة بأحدث منظومات الدفاع الجوي الصهيونية والأمريكية.
3-كيفية التعامل مع الأضرار الواسعة التي ستصيب “الجبهة الداخلية” بسبب الهجمات الصاروخية الواسعة أولاً، واحتلال قوات من محور المقاومة لأراض داخل كيان العدو، وخصوصاً في الجبهة الشمالية: الجليل والجولان ثانياً.
سأذكر واقعتين فقط حول هذه المناورات تظهران مأزق العدو الوجودي من بوابة الدفاع الجوي:
*أولاً: في أواخر شباط المنصرم، نفذ كيان العدو وقيادة الجيش الأمريكي في أوروبا مناورة سنوية لعدة أيام، تركز على كيفية التفاعل بين القوات، وقدرتها على الانتشار والتكامل وتوحيد القيادة… لكن، وبعد أيام قليلة، عقدت مناورات جديدة لذات القوات (الدفاع الجوي بكافة تشكيلاته، القيادة والسيطرة…) استمرت لشهر، وركزت على عنصرين أساسيين:
1-استخدام منظومات الدفاع الجوي “ثاد” المخصصة للتصدي للهجمات الصاروخية البالستية في الغلاف الجوي للأرض.
2-نشر هذه قوات الدفاع الجوي الأمريكي في كيان العدو خلال (72) ساعة كحد أقصى.
استناداً لما سبق، يمكن استخلاص الكثير من العبر، منها:
1-أن هناك خللاً قاتلاً في أنساق الدفاع الجوي الصهيوني، وخصوصاً عند مواجهة هجمات صاروخية بالستية، وأن التجارب المشتركة لكيان العدو وأمريكا بهذا الخصوص لم تصل أبداً إلى نتيجة مطمئنة، خصوصاً إذا استرجعنا تجارب 2013-2014-2015 في عرض المتوسط، والصواريخ الكورية الشمالية فوق اليابان العام 2018.
2-النقص الحاد في منصات الدفاع الجوي الصهيونية (القبة الحديدية للصواريخ القصيرة المدى، حيتس2و3 وباتريوت للصواريخ ذات المدى 40-300كم…) حيث أظهرت دراسات قدمتها جهات صهيونية مختصة أن كيان العدو سيخسر 15مليار دولار في الأيام الأولى من الحرب على صواريخ المنظومات المضادة للصواريخ، ولكن الأخطر بأن مخزون الكيان من الصواريخ سينفذ بأول اسبوعين من الحرب… أي ستكون المنصات بلا صواريخ تطلقها.
*ثانياً: مناورة أجراها العدو قبل أيام فقط، تحاكي تعرض الكيان لهزات أرضية وزلازل وموجات تسونامي عنيفة، تخلف دماراً هائلاً وعدداً كبيراً من القتلى والجرحى، بالتزامن مع انهيار شبه كامل للمرافق العامة: كهرباء، ماء، مشافي، طرق ،مطارات، قطارات… لتقوم “نجمة داوود الحمراء” بعد هذه المناورة تحديداً، بتنظيم حملة “قطرية” للتبرع بالدم بسبب “النقص الشديد” في بعض الزمر وخصوصاً O+، والمعروف بأن هذه الزمرة تعطي معظم الزمر الأخرى… أعتقد بأننا جميعاً ندرك أي نوع من الزلازل والهزات التي يقصدها قادة كيان العدو بهذه المناورات.
*مبارزة الدفاعات الجوية:
لنسأل احد اهم الاسئلة التي يغيبها الكثيرون: من الأكفأ في اعتراض الصواريخ والقنابل المسيرة والصواريخ الجوالة في منطقة الشرق الأوسط برمتها، وبالبرهان والنتائج الميدانية الملموسة؟!. أُذكر سلفاً بأن الدولة السورية عانت بشكل لم يسبق له مثيل بتاريخها العسكري من تصدع شبه شامل لمنظومات دفاعها الجوي على مستويين رئيسيين: مساحة الإنتشار ومستوى حماية هذا الإنتشار. كلنا يذكر حقيقة تراجع سيطرة الدولة السورية على الارض الى ما دون 30% من مساحة سورية، ما سبب ضرراً واسعاً لكفاءة انتشار الدفاع الجوي السوري، إلى جانب التدمير الممنهج لأذرعه في كل نقطة وصلت اليها أدوات الغزو الارهابية… فأصبحت مهمّة إعادة بناء ونشر مكونات الدفاع الجوي (رادارات، منصات إطلاق، مراصد، أنساق النار…) واحدة من أهم وأخطر المهام التي شغلت عقل القيادة العسكريّة، واحتاجت منها إلى جهد خلاق وجبار بحق… حيث نقلت مجدداً مكونات الدفاع الجوي التي تمّ سحبها قبل أن تدمرها أدوات الغزو الإرهابية إلى قواعدها لحظة تحريرها، وترميم ورفد هذه القواعد بالكوادر والمعدات حسب الإمكانيات المتاحة… كل ذلك كان يجري في ظروف غاية في التعقيد والصعوبة؛ التصدي لاعتداءات العدو الصهيوني والغارات الأمريكية والبريطانية والفرنسية والتركية… وهجمات لا تتوقف من قبل أدوات الغزو الإرهابية، ونقص في الكوادر والإمكانات… أي أنّ الدفاع الجوي السوري كان يحتاج لاستعادة عافيته امكانات وزمن لا يمكن اختصارهما باي شكل من الاشكال.
بالرغم من هذا الوضع المأساوي، ومن بوابة نسبة إعتراض الأهداف المعادية، اعود للسؤال المركزي السابق. تُشير كل الدلالات الى تفوق الجيش العربي السوري ممثلاً بدفاعه الجوي بأذرعه مجتمعة المختلفة… على نظيره الصهيوني بأشواط واسعة في عدة مجالات، أذكر منها:
1-نسبة الإعتراض: من اللافت حجم “المواد” النظريّة والبصرية التي تتحدث عن الفشل المستمر والمتعاظم لمنظومات الدفاع الجوي الصهيوني، والنسب المتدنية جداً لقدرتها على اعتراض الصواريخ والأهداف المعادية… حيث ذكرت صحيفة “هآريتس” العام 2013 أن “القبة الحديدية” نجحت باعتراض (310) صاروخاً من أصل (850) صاروخاً أطلقت من غزة، أي بنسبة 36% فقط. وأما في الجانب السوري وخلال العدوان الصهيوني الموسع قبل أسابيع قليلة، فقد استخدم قرابة (40) صاروخاً وقنبلة موجهة وطائرة انتحارية… تم اعتراض(34) منها، أي بنسبة 85%، ولم تنجح سوى اربعة أو خمسة أجسام معادية من بلوغ اهدافها.
2-ظروف الإعتراض: إلى جانب الدعم المالي-التقني الغربي والأمريكي خصوصاً، يمتلك دفاع جو العدو ميزانيات ضخمة، وينتشر بشكل وبإمكانات نموذجيّة، وضمن ظروف من الإستقرار الداخلي العالي، ولا تعاني مكوناته (بطاريات، رادارات…) من أي استهداف فعلي خلال أو خارج عمليات التصدي… على العكس تماماً من الدفاع الجوي السوري.
3-نوعية الأهداف المُعترضة: تتصدى منظومات العدو لنوعين أو ثلاثة من الأهداف، وغالباً ما تكون عاديّة الدقة، ومتواضعة بإمكاناتها التقنية والتدميريّة… بينما تعامل الدفاع الجوي السوري مع تشكيلة واسعة جداً من الأهداف المعادية (طائرات حربية حديثة، صواريخ جوالة، قنابل وصواريخ موجهة، طائرات مسيرة انتحارية، أهداف وهميّة…) وضمن بيئة قاسية من التشويش والحرب الإلكترونية.
4-حتى في منظومات الدفاع الجوي المتوسط والبعيد المدى (40-300كم) فشلت دفاعات العدو خلال اختبار مباشر وضعتها فيه الصواريخ السورية، عندما أُطلق صاروخي “توشكا” نحو تجمعات داعش في حوض اليرموك إبان عملية تحرير جنوب-غرب سورية من الجيوب الإرهابية 2018، حيث فشلت بطاريات “باتريوت” و”حيتس” في اعتراضهما… بينما اسقط الدفاع الجوي السوري طائرة أف-16 صوفا، عامود سلاح جو العدو الفقري، من مسافة 100كم تقريباً، كما اعترض أحدث صواريخه الجوالة والبالستية… من مسافات مشابهة.
*ختاماً، ضمن سياسة التجاهل وتجهيل دور الدفاع الجوي السوري، تنوعت الإدعاءات حول الجهة التي تقوم بهذا الجهد الجبار تجاه أحدث ما لدى واشنطن وتل ابيب ولندن وباريس… من تقنيات جو-فضائية، وبهذه النسبة المرتفعة جداً، فقالوا بأن روسيا أو إيران هي من يدير هذه الدفاعات، فالجيش العربي السوري غير قادر على تشغيل منظومات معقدة مثل أحدث إصدارات “بانتسير” و”تور إم” وغيرهما بهذه الكفاءة. ولكن، بعد إسقاط الطائرة العسكرية الروسية إيل-20 بصاروخ S-200 سوري في ايلول الماضي خلال عدوان صهيوني على سورية، سارعت تل أبيب وجوقتها على تحميل الجيش العربي السوري مسؤولية اسقاط الطائرة، وطلبت من موسكو عدم تسليم دمشق صواريخ 300-S “خوفاً” على الطائرات الروسية والطيران المدني في المنطقة من الدفاع الجوي السوري الذي “يُطلق النيران عشوائيّاً”!.
سواء قصدت موسكو من تسليم رماد الجندي الصهيوني الذي فرمته الدبابات السورية في معركة السلطان يعقوب أن تصبح صوتاً مرجحاً في الإنتخابات الصهيونية أم لم تقصد، وسواء كان لها (صفقة قرن) على طريقتها أو لم يكن، وسواء تحاول جعل “إسرائيل” دولة يهودية ضمن الفدرالية الروسية أو لم تحاول… فإن لنا مع الكيان معركة لم تكتب آخر فصولها بعد، بدايتها لن تكون من الجولان وختامها لن يكون في القدس. لقاء الأسد وخامنئي في طهران، ورؤساء أركان سورية والعراق وايران في دمشق، ولقاءات “السيد” في الضاحية مع فصائل فلسطينية، والصواريخ إلى تل أبيب… تقلق موسكو وتخيف واشنطن وتل أبيب، وقادم الأيام مثقل بالأخبار الكبرى، ومن كل اتجاه.