كتب عماد مرمل في الجمهورية:
خلال أسابيع تَبدّل موقف «التيار الوطني الحر» حيال الرئيس نجيب ميقاتي من الامتناع عن تسميته خلال استشارات التكليف الى مَنحه ثقة تكتل «لبنان القوي» في مجلس النواب… فما هي أبعاد هذا التحول؟ وماذا يخفي؟
عند طرح اسم ميقاتي في التداول، عشيّة الاستشارات المُلزمة، سارعَ التيار الى انتقاد هذا الخيار بحِدة، وذهب بعض أعضائه الى اتهام ميقاتي بملفات وارتكابات، ثم تُوّج هذا المسار لاحقاً برفض تسمية الرجل لرئاسة الحكومة.
كان «التيار الحر» يعرف جيدا انه سيتم تكليف ميقاتي بأكثرية مريحة، وان الرئيس ميشال عون يفضّله على الرئيس سعد الحريري، ولكنه قرر في حينه ان يرفع سقفه السياسي، ليس لخوض اشتباك مجاني مع ميقاتي وإنما لتحسين شروط التفاوض معه على تركيبة الحكومة، سواء عبر رئيس الجمهورية مباشرة او النائب جبران باسيل في الخطوط الخلفية.
منذ بداية المفاوضات، وضع ميقاتي عواطفه الشخصية جانباً وأدرك انّ علاقات «حسن الجوار» مع باسيل من شأنها تسهيل تشكيل الحكومة وعبورها «الجمارك السياسية»، خلافاً لاستراتيجية سلفه الحريري الذي أصَرّ على مقاطعة باسيل رافضاً اي حوار بينهما، وحتى حين تدخل الفرنسيون لجمعهما بقي متمسكاً بموقفه الى درجة أزعجَت باريس.
في المقابل، قارَبَ ميقاتي هذه المسألة ببراغماتيته الشهيرة، منطلقاً من انّ باسيل يترأس اكبر كتلة نيابية ومسيحية في مجلس النواب، إضافة إلى انه صاحب دور مؤثر في كواليس العهد، وبالتالي المصلحة تستوجِب استمالته بدل استعدائه.
وتحت سقف هذه المقاربة، أبدى الرئيس المكلف انفتاحا مبكرا على باسيل ولم يحوّل الاتصال به عقدة، إذ انّ المطلوب، وفق معادلته، أكل العنب لا قتل الناطور، فدعاه الى العشاء غداة التكليف لِكسر الجليد، ثم استمر التواصل عند الضرورة خصوصاً انّ ميقاتي كان يفضّل استمزاج رأي باسيل في بعض الاسماء لاختصار المراحل، وكذلك دخلَ صهر شقيق ميقاتي على خط الأخذ والعطاء مع رئيس التيار، مٌستثمراً في صداقتهما القديمة.
هذا السلوك المَرِن من جهة ميقاتي، معطوفاً على أفكاره الأولية لمقاربة المرحلة المقبلة، أوجَد ارتياحاً لدى باسيل وساهمَ في تبريد حرارة هواجسه المسبقة، بحيث بات اكثر استعداداً لمنح الحكومة الثقة، وهو الأمر الذي كان من بين مطالب ميقاتي، ما سَهّل في نهاية المطاف ولادة الحكومة وأعطى إشارات الى انّ «التيار الحر» في صَدد «إهداء» رئيسها فرصة كاملة ومُبادلته النية الحسنة بمِثلها.
وليس خافياً انّ قصر بعبدا وميرنا الشالوحي يعتبران ضمناً انّ التركيبة الوزارية هي إنجاز سياسي لهما، وأنّ رياحها جرت بما تشتهيه سفنهما، بل انّ «حسبة» أحد مسؤولي التيار قادَته الى الاستنتاج أن العهد يمون واقعياً على 10 وزراء مسيحيين والوزير 11 «فيفتي فيفتي».
وبعدما أبصر المولود الحكومي النور، عُقد قبل أيام اجتماع بين ميقاتي ووفد من التيار برئاسة باسيل لحسم مسألة منح الثقة التي رُبطت برتقالياً بترجمة الإيجابيات المعلنة الى سياسات معتمدة من خلال إطلاق التدقيق الجنائي والبطاقة التمويلية وتضمين البيان الوزاري الإصلاحات الاقتصادية والمالية.
وبالفعل، وقّع وزير المال الجديد عقد الاتفاق مع شركة التدقيق «الفاريز أند مارسال»، ودارت محركات البطاقة التمويلية بعد الإعلان عن منصة التسجيل لتوزيعها، ووردت الإصلاحات المطلوبة في البيان الوزاري، فاعتبر التيار انّ هذه الدفعات على الحساب هي كافية لمنح الثقة، من دون أن يعني ذلك انه سيُهادِن الحكومة اذا أخَلّت بالتزاماتها، «بل نحن سنعارضها وبصوت مرتفع كلما اقتضت الحاجة ذلك»، وفق ما يوضح مصدر مطلع في التيار، لافتاً الى انّ الحكم النهائي سيكون على الأعمال لا الأقوال «والاكيد اننا لن نغطّي الأخطاء بتاتاً، وحتى لو تبيّن انّ المخطئ هو وزير محسوب على رئيس الجمهورية، فسنواجهه كما فعلنا مع وزير الاقتصاد السابق راوول نعمة»
يبقى، انّ طريقة التعامل مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مستقبلاً ظلت معلّقة وعالقة بين الجانبين، ويبدو انها ستخضع حالياً الى قاعدة «ربط النزاع» في انتظار ما ستحمله التطورات، علماً انّ قيادة التيار المتحمسة لإزاحة سلامة عن منصبه تَجنّبت إحراج ميقاتي في هذا المجال ومطالبته بما يفوق طاقته راهناً، وبالتالي كل ما تأمله هو أن ينجح رئيس الحكومة في ضبط سلوك «الحاكم» وتصويب سياساته.
في الحصيلة، يشعر التيار أنّ التقاطعات المستجدة بينه وبين رئيس الحكومة يمكن البناء عليها للمستقبل، خصوصاً انّ ميقاتي ليس في حاجة إلى افتعال معارك ضد عون لشد العصب السني، وفق المصدر البرتقالي الذي يلفت الى ان الرجل أثبت انه قادر على احتواء الضغوط والمزايدات كما فعل مع نادي أقرانه، بحيث فضّل ان يكون رئيس حكومة في السرايا على ان يكون بطلاً في نادي رؤساء الحكومات السابقين.
وأبعد من حدود اللحظة، هناك في التيار مَن بدأ يهمس بأنه اذا نجح ميقاتي في تجربته الحالية، فإنه سيصبح المرشح الأوفر حظاً لرئاسة حكومة ما بعد الانتخابات النيابية المقبلة، فهل يغدو شريك عون حتى انتهاء ولايته الرئاسية أم ان الحريري قد يقلب الطاولة في الانتخابات ويفرض نفسه مجدداً رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه او تجاهله؟