ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، قداس الاحد في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطرانان حنا علوان وانطوان عوكر، في حضور عائلة المرحوم المونسينيور توفيق بو هدير وحشد من المؤمنين.
بعد الانجيل المقدس ألقى البطريرك الراعي عظة بعنوان “جعت فأطعمتموني” (متى 25: 35) قال فيها: “ربنا يسوع المسيح ابن الله اتحد بكل إنسان، عندما تجسد، وافتدى الجنس البشري بآلامه وموته على الصليب، وأعطى الحياة الجديدة لجميع الناس بقيامته، وجمعهم بروحه القدوس أعضاء في جسده السري. وأصبح متماهيا معهم. ولهذا قال: كنت جائعا فأطعمتموني، وكل مرة صنعتم ذلك لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه (متى 25: 35 و 40). هذا الإنجيل هو دعوة لكل إنسان لكي يعيش المحبة الإجتماعية تجاه أي محتاج، دونما اعتبار لدينه أو عرقه أو لونه أو ثقافته. فالحاجة، أكانت مادية أم روحية أم معنوية، لا تفرق بين الناس، بل تجعلهم أخوة يسوع الصغار. وعلى هذه المحبة الإجتماعية سندان في مساء الحياة. إنجيل اليوم هو إنجيل الدينونة الخاصة والعامة. فالخلاص الأبدي مرتبط بعيش هذه المحبة، أما الهلاك فمرتبط بعدم عيشها”.
أضاف: “مع هذا الأحد الأخير من تشرين الأول ينتهي زمن الصليب، وتحتفل فيه الكنيسة بعيد المسيح الملك الذي يشركنا في ملوكيته بالمعمودية والميرون، لكي نكون شعب المحبة الفعلية والفاعلة، وشعب حرية أبناء الله والحقيقة والعدالة والسلام. إننا نلتزم اليوم بموجبات هذه الملوكية.أرحب بكم جميعا في هذه الليتورجيا الإلهية، وأوجه تحية حارة إلى عائلة المرحوم المونسنيور توفيق بو هدير، والدته وشقيقيه وأنسبائه الكثر. وقد ودعناه معهم ومع شبيبة لبنان، وبلدان الشرق الأوسط وأبرشيات الإنتشار منذ اثني عشر يوما في جو من الألم والأسف، ولكن بكثير من الرجاء أنه لا يموت بل يدخل الحياة السعيدة في السماء. علامتان ناطقتان رافقتا وفاته وصلاة المرافقة: الأولى أنه توفي في يوم إعلان القديسة تريز الطفل يسوع ملفانة الكنيسة، وهي شفيعته كشابة قديسة يملؤها الحب الإلهي الذي تزرعه ورودا في العالم مدى الأبدية. هذا الحب دخل قلب أبونا توفيق ووزعه بفرح دائم. والعلامة الثانية، أن في يوم صلاة المرافقة كانت الكنيسة تحتفل بعيد شفيعه الآخر القديس البابا يوحنا بولس الثاني الذي أحب الشبيبة حتى سمي “بابا الشبيبة”. هكذا أبونا توفيق المتأثر في العمق بشخصية يوحنا بولس الثاني أحب من كل قلبه الشبيبة، وحمل همها ومستقبلها ومصيرها فسمي هو أيضا “أبونا الشبيبة”.
نقدم هذه الذبيحة المقدسة لراحة نفسه وعزاء أهله والشبيبة وكل محبيه وما أكثرهم، وتأتينا رسائل التعزية من كل بلدان الارض. وعوض الله على الكنيسة بكهنة قديسين”.
وتابع الراعي: “حدد الرب يسوع قطاعات الحاجة التي يمر فيها جميع الناس، والتي تقتضي منا كلنا ممارسة المحبة الاجتماعية، وهي: الجوع والعطش والغربة والعري والمرض والأسر. هذه القطاعات الستة لا تقتصر على الشؤون المادية بل تتعداها إلى تلك الروحية والثقافية والإقتصادية والمعنوية. فالجوع يشمل الحاجة إلى الخبز والغذاء، وأيضا إلى العلم والتربية، وإلى اعتبار وتفهم من الآخرين. والعطش ليس فقط إلى الماء بل أيضا إلى الحقيقة والعدالة والمحبة والحرية، وتحقيق الذات والحلم في تحقيق مشروع الحياة. والغربة لا تعني فقط الشخص الموجود في أرض وبلد وبيئة غريبة لا ينتمي إليها، بل تعني أيضا كل من يشعر بغربة بين أهله، بسبب عدم تفهمهم له ولأفكاره الجديدة ولتطلعاته، أو في مجتمعه الذي لا يتقبله لأنه مختلف عنه في أصله ودينه وثقافته وانتمائه السياسي وجنسيته. والعري لا يقتصر على اللباس وأثاث البيت، كما في حالة الفقر المدقع، وعلى النزوح والتهجير، بل يشمل أيضا انتهاك الصيت والكرامة بالنميمة والكذب والتجني، وبالكلام الباطل، وكشف الأخطاء الأخلاقية ونقلها إلى الناس والرأي العام.
والمرض متنوع، ويشمل الأمراض الجسدية والأمراض العصبية والعقلية والفيزيولوجية والنفسية. وايضا الأمراض الروحية مثل حالة الخطيئة والبغض والحقد والميل إلى الشر واليأس، والأمراض الأخلاقية كالكبرياء والادعاء بالنفس والدعارة الجنسية والادمان على المخدرات والكحول ولعب القمار. والأسر لا يتوقف عند مساحة السجن وراء قضبان الحديد، بل يمتد إلى من هم أسرى قناعاتهم الخاطئة ولا يقرون بها، ومن هم أسرى التيارات السياسية المغرضة، وغير قادرين على التمييز بين الحق والباطل، وبين العدل والظلم”.
وقال: “بروح هذه المحبة الإجتماعية، والواجب ونداء الضمير والشعور مع الناس في خوفهم على مصيرهم ومصير لبنان، قمت في مطلع الأسبوع الماضي بمبادرة وطنية، إذ لم يكن جائزا أن نتفرج على التدهور المتسارع من دون أن نتحرك، مكتفين بعظات وبيانات. فلبنان لبناننا جميعا، وشعبنا شعبنا جميعا، ومسؤولية البحث عن حلول مسؤوليتنا جميعا. لقد رأينا أخطارا توقف الحكومة عن الاجتماع وهي في بداية انطلاقها، ورأينا بحزن واستنكار اندلاع اعتداءات واشتباكات في الشارع أوقعت ضحايا وجرحى وردتنا الى مرارة الحروب السابقة، ورأينا غرابة الهجوم السياسي على القضاء كأن لا دولة ولا نظام ولا دستور ولا قانون ولا فصل بين السلطات عندنا، كما عند غيرنا في العالم المتحضر. ورأينا بألم استمرار التدهور الاقتصادي والمعيشي، وارتفاع نسبة الفقر إلى 75% من الشعب اللبناني، وازدياد نسبة البطالة إلى ما فوق ال35%، ورأينا بحسرة شبابنا يهاجر، وعائلاتنا تجوع، ومؤسساتنا التعليمية والاستشفائية والتجارية تفلس أو تقفل، والتظاهرات والاحتجاجات تنتشر في جميع المناطق غضبا واحتجاجا”.
وأردف: “لقد دعونا كبار المسؤولين إلى تحمل مسؤوليتاهم، والتحرك الفعال، ومعالجة الأحداث قبل وقوعها، وتجاوز الصعوبات، ووضع حد للتدهور الاقتصادي والأمني الذي لا يوفر أحدا حتى الذين يظنون أنهم يستطيعون التحكم بتطوراته. لا أحد يتحكم بها لأن امتداداتها خارجية ومصدر جزء كبير من قراراتها خارجي أيضا. إن أهم إنجاز يمكن للقوى السياسية أن تقوم به هو عدم انجرارها في لعبة الدول، ولاسيما في هذه المرحلة الإقليمية الدقيقة. لقد قام لبنان على الشراكة في إطار السلام، والاعتدال، والحياد، ودولة القانون التي يضمنها القضاء العادل والفاصل”.
وأكد أن “همنا الأساسي هو ضرورة احتكام الجميع إلى الحلول الدستورية لدعم التحقيقات القضائية الجارية، فما يقوم به القضاء العدلي المطابق للدستور والعلم الدستوري والقانون وأصول المحاكمات والإجتهاد، يستحق الدعم. ولذا يجب أن يكمل القضاء تحقيقاته في قضية تفجير المرفأ من جهة، وقضية الأحداث في عين الرمانة من جهة أخرى بعيدا عن أي مقايضة بين القضيتين أو أي مساومة أو تسوية أو تسييس أو تطييف. فالقضاء لا يخضع لهذه المعايير التي تمارسها الجماعة السياسية في علاقاتها السياسية أحيانا. القضاء حق وعدالة لصالح الجميع. القضاء لا يخلط بين القضايا، فشأنه أن يعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر. لا شيء يعلو على حق شهداء المرفأ وأهاليهم، وعلى حقوق الجرحى والعائلات المشردة من بيوتها المهدمة وعلى تعويضاتهم، ولا شيء يعلو على معرفة الحقيقة الساطعة، ولا حقيقة من دون عدالة. فالحقيقة والعدالة يؤمنان خير الجميع”.
وتابع: “أتت هذه الحكومة بغية إنهاض لبنان وترميم علاقاته مع الأسرة العربية والدولية. فتعثرت بسبب التحقيق القضائي في إنفجار المرفأ. وتأتي اليوم الأزمة مع المملكة العربية السعودية خصوصا ودول الخليج العربي عموما، وهي متعددة الأسباب ومتراكمة، ومن شأنها أن تسيء إلى مصلحة لبنان ومصالح اللبنانيين. لذلك نتطلع إلى أن يتخذ رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وكل معني بالموضوع، خطوة حاسمة تنزع فتيل تفجير العلاقات اللبنانية الخليجية. وإذ ندعو إلى هذا الموقف الحاسم، فدفاعا عن لبنان واللبنانيين المقيمين في الوطن وفي الخارج”.
وختم الراعي: “نصلي معا، ونسأل الله أن يحمي لبنان وشعبه ليظل أرض العيش معا بروح الأخوة والسلام. أرض الحوار والانفتاح والتآخي والتعاون مع جميع الدول وهكذا يعود الى طبيعته الاساسية والى هويته. فيتمجد الله الواحد والثالوث: الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبدد، آمين”.
وبعد القداس استقبل البطريرك الراعي المؤمنين المشاركين في الذبيحة الإلهية.