كتب الأب الياس كرم في النشرة
ولادة المصلوب
لم تكن الهدايا التي قدّمها المجوس للسيد المسيح عند ولادته، إلا رموزًا واشارات لما سيعيشه خلال حياته. وكما هو معروف عند معظم الناس، قدّم ملوك المشرق ذهبًا ولبانًا ومرًا.
ويشير الذهب إلى اعتراف المجوس بأن الطفل المولود هو ملك، فقد كان الذهب يعطى كهدية للملوك. وكانت الهدية الثانية هي اللبان الذي يرمز إلى الكهنوت والعبادة، فقد قال داوود النبي في سفر المزامير “فلتستقم صلاتي كالبخور أمامك”. والهدية الثالثة كانت المرّ، الذي يُستخدم بشكل خاص كدواء لشفاء العديد من الأمراض. والمرّ، الذي هو عطر أيضاً، يرمز لآلام السيد المسيح. وهذه الصفات تختصّ بالحياة الحقيقيّة ليسوع.
اذا دخلنا في التحليلات والدراسات اللاهوتيّة لأفْرَدْنا معانٍ كثيرة حول المجوس وهداياهم، خصوصًا لناحية فكرة ولادة مخلّص لخارج البيئة اليهودية، فهؤلاء ملوك المشرق جاؤوا أولًا ليقدّموا الهدايا لهذا الغريب. ربما نجد الإجابة عن هذا السؤال في شهادة يسوع نفسه، الموجودة في قصة لقائه بالمرأة السامريّة عند بئر يعقوب، بعد خروجه من مدينة السامرة إلى مدينة الجليل، فقال جملته الشهيرة “لا كرامة لنبي في وطنه”(يوحنا 4: 44)، أي أنّنا أمام حقيقة، أن النبي أو الإنسان الغريب، يكرّم من قبل الغرباء أكثر من بني قومه. والجانب الآخر الذي يحمل معنى روحيًا، نجده في سفر أعمال الرسل، عندما دخل الأمم، من غير اليهود، في المسيحية. وهذا الجانب الروحي للقصّة يتمثّل باعتراف المجوس، الذين هم أصلاً من الأمم، بوجود مخلّص، وتكريمه أيضاً بتقديم الهدايا له.
باستعراضنا مراحل من حياة المسيح نستذكر المرأة التي سكبت المرّ عليه، هو نفسه أخذته النسوة حاملات الطيب في يوم الفصح، بعد أن كفّنّ يسوع على عجل قبل بزوغ السبت، كما سبق وفعلت مريم حينما قمّطته في المذود يوم ولادته. واذا دخلنا في عمق ما ترمز إليه مغارة بيت لحم، لوجدنا أنفسنا في القبر الذي نحته يوسف الرامي حيث طلب جسد يسوع من بيلاطس ووضعه في قبر جديد.
كثيرون من أبنائنا يقولون، وعن غير قصد، أن عيد الميلاد هو أجمل عيد عندنا، في حين أنهم غفلوا عيد الفصح الذي هو عيد الأعياد وموسم المواسم. فلو لم يُترجم طفل المغارة حبّه للبشر على الصليب لكانت المسيحية انتهت عند باب مذود البهائم.
المسيحية ديانة التضحية والتسامح والخدمة والعطاء، إنها ديانة الإيمان والرجاء، وأعظم ما في المسيحية هذا الإختراع الفريد من نوعه، أعني المحبّة التي هي أعظم ما سكبه الله بيسوع المسيح.
هذا الذي ترجم حبّه مع المريض والمسكين والفقير واليتيم والأرملة، هذا الذي بذل نفسه حتى الصليب ليفتدينا بدمه الكريم، هذا الذي أقام الموتى وشفى النفوس الخاطئة، هذا الذي ثارت ثائرته على لصوص الهيكل وعلى مراءاة الفرّيسين، هذا الطفل الذي سجد له الملوك وسبّحته الملائكة وزاره الرعاة ورافقته نجمة السماء وأدفأه لهاث البهائم، هذا الطفل صانه يوسف وعرفت مريم هدفه ورسالته فواكبته حتى الصليب، وكانت واقفة تحت قدميه تتأمل وتسترجع تلك اللحظة التي خاطبها الملاك وبشّرها بمولد المخلص، لذلك سارعت إلى القبر فرأته فارغًا ولم تستغرب، فملاك الرب كلّمها فسمعت منه بشرى القيامة كما سمعت قبلًا بشارة الولادة، وفي الحالتين كانت تفهم رسالة الله لها. هذا الإله العظيم لا نكرّمه بشجرة وهدية وعشاء عائلي، إنما بجعل قلب كل واحد منّا مغارة بيت لحم، لنلد الإله على مثال مريم.
في هذا العيد الذي ظهر الله طفلاً من احشاء مريم، ماذا نقدّم له من هدايا اكثر قيمة من هدايا المجوس، والذين فتحوا كنوزهم ولم يكتفوا بما أشار اليه الإنجيل، واعترفوا به إلهًا وملكًا ومعدًا للذبح. إن كنّا فعلًا مؤمنين بهذا المولود لن “نُلبس الشجر والناس عراة” كما كتب يومًا الأب جورج مسّوح، رحمه الله.
إن لم نفهم أنّ العيد هو في الجياع والعطاش والعراة والمرضى والمسجونين والمهمّشين والمنسيين والبسطاء والمنهوبين والمستضعفين والمقموعين والمشردين، يكون الميلاد قد مرّ مرور الكرام ولم يترك بصمته فينا. إن لم نتذكّر في هذا العيد، كم من امرأة لم تستطع الولادة بظروف جيّدة، وكم من مشاكل زوجيّة وعائليّة، وكم من أمٍ فقدت جنينها لأنها لم تجد على غرار مريم مكانًا تأوي إليه، يكون الميلاد ذكرى عابرة. وإن لم نفهم حاجة المرضى لدواء، والحزين لتعزية، والفقير لرغيف، والمتألم للمسة حنان… لا يكون العيد قد حلّ، وسيبقى مجرد عيد وثني يعيشه أشخاص لم يعرفوا الحبّ الذي علّمنا إياه يسوع، وبالتالي سنبقى في جهلٍ للحقيقة الساطعة، وسيبقى العيد في البطون لا في القلوب.
“اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ”(إشعياء 1: 3). فإلى متى سنبقى في هذا الجهل ولم ندرك ولادة المخلص؟ إنما ولادة “المظاهر الخارجية الخدّاعة والإفتخار” بالنفوس الساقطة لا في القلوب المتضرّعة. إلى أين المصير طالما نحن غارقون في مجد هذا العالم الزائل؟ لن نفهم حقيقة الميلاد إن لم نعِ في ولادتنا قساوة الحياة، التي هي مصلوبيّة نعيشها من رحم الأم إلى الرقاد. الذي بدوره نعبره إلى القيامة إن آمنّا بذلك. إن فهمنا لاهوت الميلاد، نردد عندها بقناعة: “أنه بالصليب أتى الفرح لكل العالم”، عندها سنكون نورًا عظيمًا في دنيا مظلمة فيرى عندها الناس الأعمال الصالحة ويمجّدون أبانا الذي في السماوات.
في هذا العيد نشهد أن هناك حاجة كثيرة في العالم، ليس للخبز فقط، إنما للحب والصدق والوفاء والأمان والعطاء والمغفرة والتواضع والبساطة. هناك حاجة إلى الثّقة بهذا المولود الضعيف الذي غلب العالم بصليبه، وسيغلب كل مستكبر ومتجبّر مهما علا شأنه، وعندها ستردد أجواق الملائكة مجددًا: “وعلى الأرض السلام”.