كتب محمد ملص في الاخبار:
بات يمكن القول إن تهريب الأفراد عبر البحر بات مهنة قائمة بذاتها، تتجاوز المغامرة الفردية إلى تشكيل فرق يتوزّع عناصرها المهام التي تبدأ بـ»اصطياد» الزبائن وإغرائهم، مروراً بتجهيز المركب وتحضير متطلّبات السفر، وصولاً إلى التملّص من المهاجرين في أيّ لحظة أو التحايل عليهم
لم تعد الهجرة غير الشرعية ترتكز على مركب يستخدم للصيد البحري، بل باتت تجارة مربحة للعشرات، تدرّ عليهم مئات آلاف الدولارات. تقوم هذه التجارة على عصابات منظّمة تستغل ارتفاع الطلب على الهجرة السرية لجني أموال طائلة، ويترأسها من يسجّل أكبر عدد من المراكب «الناجية» التي تمكّن من تهريبها عبر البحر، ما يساهم في رفع أسهمه في سوق تجارة البشر، ويجعل منه قبلة للمهاجرين، ليعمد بعدها الى رفع الأسعار نتيجة الإقبال الكثيف عليه.
الدفع بالدولار «الفريش»
لا يتردّد أحمد (65 عاماً) في الحديث عن دخوله هذا العالم، بعدما بات منزله المعروف في أزقة منطقة ببنين، في عكار، مقصداً للعشرات يومياً من الراغبين بالسفر عبر البحر «سفر لا يحتاج إلى أوراق ثبوتية، لا جواز سفر ولا فيزا، ما عليك تأمينه هنا فقط هو الدولار».
يقول أحمد لـ«الأخبار» إنّه كان يعمل في مجال صيد السمك، ويملك ثلاثة مراكب للصيد. في مطلع 2017 قصدته عائلة سورية من أربعة أفراد وطلبت منه نقلها إلى قبرص. تقاضى يومها 500 دولار عن كل فرد «نقلتهم في ساعات الليل إلى الجزيرة. ما حققته في تلك الرحلة، والبالغ ألفَي دولار أميركي، كان مدخولي على مدى أشهر. حينها قرّرت أن أتحوّل إلى هذه المهنة وأساعد هؤلاء المهاجرين على تحقيق أحلامهم».
يقصد أحمد يومياً عشرات الأشخاص طالبين منه وضعهم على أوّل رحلة إلى إيطاليا أو قبرص أو اليونان. الطلبات كثيرة وبات هناك حجز مسبق. أما عن تكلفة الشخص الواحد فيحدّدها بـ 5 آلاف دولار، وغالباً ما ترتفع إلى 10 آلاف دولار «في حال كان الشخص يرغب بالهجرة سريعاً، أو كان مطلوباً أمنياً». يدفع الزبون نصف المبلغ بداية، والنصف الثاني قبيل انطلاق المركب. مهمة المهرّبين «تأمين المركب لحين وصوله إلى المياه الإقليمية، وهذا يتطلّب أمرين: اختيار نقطة الانطلاق وتأمين عملية الوصول إلى الشاطئ مع نقل كامل المعدات تجهيزاً للانطلاق، والهرب من الرقابة الأمنية عبر تشتيت انتباه القوى الأمنية إلى نقطة انطلاق غالباً ما تكون وهمية».
مقدّمات الرحلة
عام 2014، قدر تقرير لمنظمة العمل الدولية أرباح الاتجار بالبشر على مستوى العالم بنحو 150 مليار دولار سنوياً، تمثل النسبة الأكبر منها من نشاط الاستغلال الجنسي لأغراض تجارية بنحو 99 مليار دولار، ونحو 51 ملياراً تأتي من نشاط الاستغلال الاقتصادي. أما هنا في عكار، فإن أرباح صاحب المركب تصل الى قرابة 450 ألف دولار عن كل رحلة. ويكشف أحمد لـ«الأخبار» تفاصيل «ترتيبات الرحلة»: «يتم الاتفاق مع من يرغب بالهجرة على يوم محدّد، من دون إعطائه معلومات عن نقطة الانطلاق خوفاً من وصولها إلى الأجهزة الأمنية وإحباط المحاولة. وبحسب الوعود التي تُعطى للمهاجر، يفترض أن لا يقلّ المركب أكثر من 20 شخصاً، ليفاجأ لدى وصوله إلى النقطة المحدّدة بأعداد كبيرة غالباً ما تتخطى الـ 80 شخصاً». رغم ذلك، يوافق الراغبون في الهجرة على المغامرة «لا مجال للاعتراض، يا بتطلع يا بتبقى هون..» يقول أحمد.
أما عن طريقة توزيع الأموال، فتشير مصادر المهرّبين إلى أنها تتوزّع بين تأمين مصاريف الرحلة من مادة المازوت، وتجهيز المركب، إضافة إلى مبالغ لأشخاص يساهمون في تأمين انطلاقة الرحلة. إذ «نضطر في بعض الأحيان إلى دفع رشى لتسهيل عملية الإبحار، أما المبلغ المتبقي فيحوز عليه غالباً صاحب المركب، وهو دائماً ما يكون رئيس العصابة».
استغلال واحتيال
ورغم أن المبالغ المالية التي يدفعها الراغب في الهجرة يمكن أن تكون أساساً لا بأس به لتغيير حياته لو قرّر أن يبذل الجهد نفسه الذي سيبذله في الغربة، يبقى «حلم» الغنى والثراء أكبر أثراً.
(محمود. ن)، وهو أب لأربعة أولاد، قرّر الهجرة إلى إيطاليا. تواصل مع أحد المهرّبين، الذي طلب منه تأمين 25 ألف دولار عن خمسة أشخاص. يروي محمود كيف باع أثاث منزله وسيارته، واستدان مبلغاً إضافياً، وسدّد 13 ألف دولار دفعة أولى، على أن يدفع بقية المبلغ عند انطلاقة المركب. حظ محمود لم يكن جيداً بعدما تمكنت القوى الأمنية من إلقاء القبض على رئيس العصابة. حاول استعادة أمواله، وتواصل مع العشرات إلا أنه لم ينجح إلا في استعادة جزء من المبلغ.
قصة محمود ليست استثناء في عكار، حيث تشير المعلومات إلى عمليات نصب تطال المهاجرين غير الشرعيين، وبالأخص السوريين. يروي أحد المهاجرين كيف أقدم أحد المهرّبين على تسليمهم إلى القوى الأمنية «حاول نقلنا ليلاً، عبر بيك أب مكشوف. كنا حوالي 80 شخصاً بالإضافة إلى كميات كبيرة من المازوت وبعض الأمتعة الشخصية، واتجه بنا نحو نقطة العريضة، هناك اعترضت طريقنا دورية أمنية وأوقفتنا وصادرت البيك أب وما بداخله. عدنا لنتواصل مع الشخص الذي قبض منا الأموال، دفع كلّ منا نحو 2500 دولار، (أي ما مجموعه 200 ألف دولار). جميعنا نحمل الجنسية السورية، لم نستردّ حتى الآن ولو دولاراً واحداً».
ويروي آخر كيف أقلّهم أحد الأشخاص إلى منطقة الميناء في طرابلس، قبض منا الدفعة الثانية من الأموال البالغة 2000 دولار، بعدما كان قد استحصل منا مسبقاً على ألفَي دولار وغادر بعدما تحدّث مع صاحب المركب الذي يفترض أن يقلّنا نحو قبرص، لنتفاجأ بأنه اتفق مع صاحب المركب على نزهة بحرية… نحو جزيرة الأرانب!
ملاحقة القوى الأمنية
تشدّد مصادر أمنية على محاولاتها الحثيثة للحدّ من ظاهرة الهجرة غير الشرعية، ولعدم وقوع المهاجرين في شباك العصابات. «إذا لم يتعرّض هؤلاء للنصب من قبل عصابات التهريب، فهم يُنقلون في مراكب مهترئة لا تستطيع أن تتجاوز الكيلومتر، ولو أن هؤلاء المهاجرين ممن نوقفهم بشكل يومي تُركوا لكنا سمعنا عن غرق المئات من الزوارق». ويتابع المصدر الأمني: «غالباً ما نحتاج إلى أيام من الرصد والمتابعة لتوقيف المسؤول عن عصابات التهريب، إلا أن القوانين تبقيه في السجن لشهر واحد على أبعد حدّ، يخرج بعدها ويعاود عمله من جديد». أما عن تعرّض المهاجرين لعمليات النصب والاحتيال، فيشير إلى «إمكانية تقديم شكوى لدى المركز الأمني لاستعادة أموالهم وحقوقهم».
المصدر: الأخبار