كتب دانيال الحداد في الجمهورية :
لم أكن أرغب في الدخول إلى مسألة الأرقام، إنطلاقاً من قناعتي الراسخة بأنّ لكلّ قطاع رسميّ في الدولة خصوصياته القائمة على ظروف وشروط مختلفة. لكنني اليوم أجدُ نفسي مضطرّاً إلى تناول هذه المسألة بعد أن «بلغ السيل الزبى» في تلفيق الشائعات حول رواتب العسكريين، والتطرّق إلى خصوصيات الجيش، التي تعتبر من أسمى الخصوصيات على الاطلاق، وهل هناك أنبَل من رسالة الجندية التي تجعل من معتنقيها مشاريع استشهادٍ دائمة في سبيل الوطن؟
إنّ ما يحكم رواتب الموظفين بصورة عامة هو الفئات الوظيفية، ثم الرتب والتدرّج إلى جانب بعض المتمّمات النابعة من طبيعة المهنة.
تاريخياً، ومنذ استقلال لبنان في العام 1943 وإنشاء المؤسسات الرسمية للدولة، كانت رواتب العسكريين هي الأعلى بين جميع الموظفين. وقد استند المشرّع في ذلك إلى خصوصيتين رئيستين: الأولى؛ وهي الخصوصية المشتركة التي تتمتّع بها مختلف القوى المسلحة في العالم، كتعرّض جنودها للمشقّات والأخطار، والبعد عن مكان السكن والعائلة… أمّا الثانية فهي الخصوصية النسبية التي يتمتع بها الجيش اللبناني على وجه التحديد، وذلك نتيجة جسامة التحديات الداخلية والخارجية التي تواجه لبنان بصورة دائمة.
لكن مع إقرار سلسلتي الرتب والرواتب للقضاة والأساتذة الجامعيين في العامين 2008 و2010، وإقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاعات والأسلاك الأخرى في العام 2017، إختلّ التوازن في قيمة الرواتب بشكلٍ حاد وغير مبرّر لمصلحة القطاعات المدنية، فباتت رواتب العسكريين هي الأدنى على الاطلاق، كما سيبيّن جدول المقارنة أدناه بين سلسلة الرتب والرواتب الأولى التي أقرّت في العام 1998 والسلسلة الجديدة التي أقرّت في العام 2017.
إنّ العيّنة الواردة في هذا الجدول تنسحب على سائر الفئات الوظيفية، وهي تبيّن بشكل واضح فداحة الغبن الذي لحق بالعسكريين على اختلاف رتبهم، فمثلاً ومع تقديري لجميع الموظفين، هل يعقل بنتيجة هذه السلسلة العشوائية أن يكون الراتب التقاعدي لعقيد في الجيش وهو من موظفي الفئة الثانية، أقل من الراتب التقاعدي لأستاذ في التعليم الأساسي وهو من موظفي الفئة الرابعة؟
وتتّسع دائرة هذا الغبن أكثر فأكثر بين رواتب العسكريين والموظفين المدنيّين، إذا ما أخذنا بالاعتبار قيمة الدرجات وعددها لكل منهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر، تبلغ قيمة درجة العميد في السلسلة 130,000 ل.ل. فيما تبلغ درجة القاضي 250,000 ل.ل. ودرجة موظف الفئة الأولى 180,000 ل.ل. كحدّ أدنى.
من جهة أخرى، يستحقّ الضابط رتبة عميد في سن الثانية والخمسين تقريباً، ويتدرّج في هذه الرتبة إلى سن الثامنة والخمسين (سن إحالته الى التقاعد). وبالتالي، فإنه يحصل على 3 أو 4 درجات فقط، فيما قد يحصىل القاضي أو المدير العام أو الأستاذ الجامعي على نحو 20 درجة تُضاف إلى الراتب، إذا ما عُيّن في هذه الوظيفة في سن مبكّر كما يحصل في غالب الأحيان.
قد يسأل البعض، لماذا لم تعترض قيادات كلّ من الجيش والأجهزة الأمنية في حينه على هذا الاجحاف الفاضح بحقوق العسكريين؟ والجواب هو أنّ اللجنة العسكرية المكلّفة بالموضوع، اعترضت بشدّة أمام اللجنة النيابية المكلّفة بإعداد مشروع السلسلة في العام 2017، لكنّ الأخيرة لم توافق على تحقيق المساواة في أساسات الرواتب بين فئات العسكريين والموظفين المدنيين، بذريعة أنّ هذه المساواة ستؤدي الى تضخم تعويضات نهاية الخدمة لدى العسكريين، كونها ترتبط بقيمة أساس الراتب لا بمتمّماته. وبالمقابل تعهّدت اللجنة النيابية وبصورة قاطعة بالابقاء على هذه المتمّمات بمعزل عن تسمياتها، وفي صلبها تعويض التجهيزات العسكرية، وذلك للحفاظ على شيء من التوازن المفقود. وبالتالي، فإنّ إلغاء هذا التعويض كما جاء في مشروع موازنة 2019، يقتضي حكماً تعديل السلسلة، لجهة تحقيق المساواة في أساسات الرواتب وقيمة الدرجات بين المؤسسات العسكرية والمدنية وفقاً للفئات الوظيفية.
ختاماً، إنّ ما رشح عن مشروع السلسلة لجهة استهداف العسكريين في الخدمة الفعلية والتقاعد دون سواهم من سائر موظفي القطاع العام، هو أبعد ما يكون عن الشجاعة والبطولة، بل هو غَرز للسكين في الجرح، واعتداء صارخ على الكرامة، سيواجَه بعاصفة من الغضب.
وكان الثلاثاء المنصرم أوّل الغيث، يقول هؤلاء الرجال….