المصدر: النهار العربي
محمد قواص
بعد تعرض المنشأة العسكرية الصناعية الإيرانية في أصفهان لهجوم ليل 28 كانون الثاني (يناير) الماضي وتناقل أنباء عن استهداف مواقع أخرى في مناطق مختلفة في البلاد، تضاربت التكهنات بشأن منفّذي هذه الضربات والجهات التي تقف وراءهم. وبينما تميل الترجيحات دائماً إلى إسرائيل على رأس لائحة المنفّذين، غير أن المواهب التي أظهرتها إيران في القدرة على إنتاج العداوات وصناعة الأعداء في الدوائر القريبة والبعيدة تبرر دوماً افتراض أيادٍ مختلفة متنوعة لها مصلحة في استهداف إيران ومنشآتها.
تَصادفَ الهجوم مع تعرض سفارة أذربيجان في طهران بعد يوم واحد إلى هجوم مسلح أودى بحياة أحد العاملين وقاد إلى إخلاء باكو لدبلوماسييها وتعليق عمل سفارتها. لم تقبل أذربيجان رواية إيران بشأن الدوافع “العائلية” للجاني، واتهمت طهران بمسؤوليتها عن الهجوم “الإرهابي”. والواقعة تأتي متزامنة مع توتر عام في علاقات العالم مع إيران.
توقفت المفاوضات في فيينا بشأن الاتفاق النووي وسط إشارات غربية توحي باليأس من إمكان إنعاش “خطة العمل الشاملة المشتركة” التي سبق للرئيس الأميركي جو بايدن أن نعاها حين أعلن “موت الاتفاق”. باتت برلين مثلاً تجاهر أنها “غير معنية بالعودة إلى فيينا في وقت تقتل سلطات طهران المحتجين” في إيران، علماً أن ألمانيا هي الدولة التي كانت تحظى بعلاقات سياسية واقتصادية متقدمة مع إيران ومتميّزة عن بقية الدول الأوروبية.
يأتي هجوم أصفهان بعد أيام على وجبة عقوبات جديدة واسعة فرضها الاتحاد الأوروبي ضد كيانات وشخصيات مسؤولة عن قمع الحراك الشعبي في إيران الذي اندلع منذ مقتل الشابة مهسا أميني في أيلول (سبتمبر) 2022، فيما لا تزال العواصم الأوروبية تناقش مسألة وضع “الحرس الثوري” على لوائح الإرهاب. ويعكس هذا التطور تحوّلاً انقلابياً في الموقف الأوروبي، بحيث تغادر “أوروبا” موقعها الوسطي المحايد في الصراع بين واشنطن وطهران وتلتحق بالموقف الأميركي سواء في ملف الاتفاق النووي أو ملف الحراك الشعبي.
غير أن للانقلاب الأوروبي دوافع أخرى قد تكون أكثر إلحاحاً من قضيتي مفاوضات فيينا وسلوك السلطات الإيرانية ضد المحتجين الإيرانيين.
تتحدث تقارير عسكرية غربية عن تغيّر نوعي طرأ على موازين القوى في أوكرانيا لصالح روسيا بعد تدخل المسيّرات الإيرانية في الحرب هناك. ويعتبر خبراء الشؤون العسكرية أن انخراط أسلحة رخيصة الثمن في المعارك من شأنه التلاعب بقواعد تلك الحرب التي وضعتها دول حلف الناتو لجهة جغرافية المعركة ونوعية ومستويات الأسلحة.
ووفق تقييمات جديدة، فإن الغرب الذي يردد أنه لا يريد هزيمة روسيا بقدر ما يريد إقناعها عبر الضغوط بإنهاء تلك الحرب، بات يرى في التدخل العسكري الإيراني الذي لم تُقدم عليه دول أخرى، بما فيها بيلاروسيا (حتى الآن)، ما يقلب قواعد اللعبة ويعقّد مفترقات الحرب وأمدها.
وفق هذا المستجد انقلب موقف أوروبا التي تعتبر أن الحرب الروسية ضد أوكرانيا هي حرب ضد أوروبا نفسها. وعلى هذا فإن انخراط إيران في “حرب ضد أوروبا” يحتاج إلى موقف جماعي دفاعي ضد عدوان يضاف إلى ذلك الذي يستهدف أوكرانيا وفضاءها الأوروبي. وعلى الرغم من إدراك إيران خطورة ذلك الانخراط فتسارع إلى نفيه واستهجان احتمالاته والوعد بموقف مزعوم ضد موسكو إذا ثبت ذلك، إلا أن أوروبا بعثت برسائلها العقابية التي قد يكون لها ما بعدها.
تتهم واشنطن وحلفاؤها إيران بتزويد روسيا بمسيّرات وصواريخ بالستية من صناعة إيرانية. تنفي طهران ذلك، لكنها تعترف أن تلك العقود مع موسكو أُبرمت في أوقات سابقة على الحرب في أوكرانيا وتستنكر احتمالات استخدام موسكو لتلك الأسلحة في حرب لا تؤيدها إيران رسمياً. لا أحد يأخذ الرواية الإيرانية على محمل الجد، لكن الجميع يتعامل مع أخطار المسيّرات والصواريخ بشكل جدي يستدعي ردعها ومواجهة مصادرها.
وفق تلك القراءة وجب استنتاج الأسباب التي تقف وراء هجوم أصفهان الملتبس. فالهدف هو مصنع للمسيّرات تمّ استهدافه، وفق الرواية الإيرانية، من خلال مسيّرات “كوادكوبتر” الصغيرة الحجم التي انطلقت، وفق الرواية الإيرانية أيضاً، من داخل الأراضي الإيرانية. وتحدثت أنباء أخرى أن مواقع أخرى مستهدفة تشمل مصانع ومستودعات للصواريخ البالستية. والواضح أن الحدث على ضراوته وما خلفه من أضرار قللت طهران من حجمها، كان يُراد له أن يبعث رسالة تحذيرية شديدة اللهجة تنبه طهران إلى ما يمكن لهذا “الشطط” في قواعد الحرب في أوكرانيا أن يحمله من ويلات ستصبح أكثر ضراوة في هجمات لاحقة قد لا تنطلق فقط من الداخل الإيراني.
يكشف الهجوم من جديد ما يمتلكه الخارج سواء كان إسرائيلياً أو غربياً في الداخل الإيراني من بنى تحتية بشرية منظمة وذات كفاءة عالية جاهزة لتنفيذ أي نوع من العمليات في أي توقيت. صحيح أن طهران تكرر لازمة العملاء الخونة في إيران وتكيل الاتهامات لـ”مجاهدين خلق” وغيرهم، غير أن تلك العمليات في السنوات الأخيرة تميط اللثام عن بيئة أمنية حاضنة قادرة على نقل الأسلحة والذخائر بما في ذلك المسيّرات والتجول بها ونشرها والانسحاب بكفاءة عالية. يطرح الأمر أسئلة حتى داخل إيران بشأن مدى الاختراق الذي أصاب البنية الأمنية الإيرانية نفسها ومدى تواطؤ بعضها في تلك العمليات.
لم تكن عملية أصفهان حتى لو سرّبت الصحافة الأميركية والإسرائيلية والمنابر الإيرانية أن إسرائيل تقف وراءها حدثاً عشوائياً ينحصر في أجندات إسرائيل وخططها. تكشف تفاصيل الموقع المستهدف ونشاطه وتوقيت العملية وسياق الخلفيات أن رسائل متعددة المصادر أرادت من خلال أذرع منفّذة توجيه إنذار بالنار إلى إيران بوقف العبث بمسرح العمليات في أوكرانيا. في المقابل لم تكن مصادفة أن يقوم وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بعد ساعات على عملية أصفهان بزيارة لطهران تحمل رسمياً رسائل من أطراف المفاوضات في فيينا.
تلك رسائل متعددة المستويات وصلت إلى طهران وتعكف على قراءتها واستنتاج ما بين السطور. وفي استنتاجها الأول، وفق مصادر إيرانية تحدثت إلى “نيوزويك”، فإن “أي خيار عسكري تتبعه واشنطن ضد طهران سيؤدي إلى صراع شامل مع تداعيات كارثية على المنطقة”. بمعنى آخر فإن طهران استشعرت فجأة في هجوم أصفهان إرهاصات حرب قد تشنها الولايات المتحدة حتى لو كانت أيادي الهجوم إسرائيلية