الثلاثاء ٢١ أيار ٢٠١٩
بقلم عباس ضاهر
يختصر باحث سياسي عريق كل الأسئلة التي تُطرح حول خضّات وأزمات الشرق الأوسط، بجواب معبّر: إنها “صفقة القرن”. ما علاقة تلك الصفقة بالملف النووي الإيراني، والأزمة السورية، وعدم الإستقرار العراقي، والغليان الخليجي، والتدهور الإقتصادي اللبناني، والإشتباك الفلسطيني–الفلسطيني، وحراك غزة، والضغوط الأميركية على تركيا؟ هل كلّها مربوطة بقرار الصفقة المذكورة؟ نعم، ولا تكتفي عند هذا الحدّ، بل تتجاوزه إلى مسائل محاولة ترتيب أمر الحدود اللبنانية الجنوبية، لبت أمر حقول الغاز والنفط وفق الرؤى الأميركية، وإثارة موضوع الحدود اللبنانية الشمالية لإشعال الخلاف بين بيروت ودمشق، وحسم ملف توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وسحق قرار حق العودة نهائياً. كلّه بإشارات صنّاع “صفقة القرن”.
كانت تعتقد واشنطن أن العقدة الأسهل في مسار الصفقة هي عقدة تركيا، ليتبيّن أن أنقره رفعت سقف خطابها، مستندة إلى توجه إسلامي فيما يتعلّق بالقدس، لرفض الموافقة على الصفقة. عندها زادت الضغوط على الأتراك إقتصادياً وسياسياً. لكن موافقة أنقرة بسهولة على تلك الصفقة قد تطيح بحكم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي ينطلق من خلفية إسلامية تحظّر بيع القدس أو سلخها إلى نصفين.
أمّا الدول الخليجية فقد إختارتها واشنطن لإعلان إنطلاق الصفقة، بوجه تجاري تحت عنوان “السلام من أجل الإزدهار”، وتبرّعت المنامة كي تكون المكان للإنطلاقة في أواخر الشهر المقبل. مما يوحي بأنّ الدول الخليجيّة وافقت على المشروع، بإنتظار الإعلان عنه.
ما هو المطلوب من إيران؟ ما تطالب به واشنطن هو عدم عرقلة طهران لتلك الصفقة، ووقف دعمها حركات المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة بالسلاح والأموال والمعنويّات، والطلب من حلفائها عدم المشاكسة. ولذلك جاءت الضغوط الهائلة على الإيرانيين إبتداء من الإطاحة بالإتفاق النووي، مروراً بالعقوبات الإقتصادية والمالية، وصولاً إلى التهديد الأميركي بشن حرب عسكريّة على الجمهوريّة الإسلاميّة. لم ترضخ طهران، لا بل أعلنت إستعداداتها لمسارين: التفاوض من جهة، والمواجهة المفتوحة من جهة ثانية. لكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب لا يريد الحرب، بل يعتقد أن ايران ستسلك طريق التفاوض، تحت طائلة “سقوط نظامها الإسلامي من الداخل بعد تزايد تداعيات الأزمة الإقتصاديّة داخل الجمهوريّة”. ولا يستبعد المطّلعون أن تكون الإدارة الأميركيّة تسعى لإشعال إحتجاجات شعبيّة إيرانيّة بعد نفاذ كل المحاولات أمامها.
أمّا المطلوب من العراق فهو عدم ترك الساحة مفتوحة للإيرانيين، أو إستخدام الأراضي العراقية مساحة لتصفية الحسابات بين “محور المقاومة” وكل من واشنطن وتل أبيب، خصوصاً في ضوء تقارير صحافية إسرائيلية تحدّثت عن أن غرب العراق سيكون مكاناً لإنطلاق الصواريخ الثقيلة نحو كل مدن ومستوطنات إسرائيل. وهو أمر حذّر منه وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو العراقيين خلال زيارته الأخيرة، لتأتي القذيفة الصاروخية نحو السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في بغداد تجزم أن حسابات واشنطن لا تتوافق مع حسابات بيدر الحشد الشعبي العراقي.
وإذا كانت سوريا تتموضع عملياً ضمن “محور المقاومة”، لكن الأميركيين يراهنون على خطين: الروس في دعمهم لمشروع “صفقة القرن”، والضغوط الإقتصادية والعسكرية على سوريا لإجبار دمشق على الرضوخ. ويرى بعض المنظّرين للغرب أن حصول تسوية إيرانية–أميركية كفيل بضمان مواقف السوريين واللبنانيين والفلسطينيين لعدم إرباك “صفقة القرن”.
فما هي علاقة اللبنانيين بالصفقة؟ قد يعتقد البعض أنّ دور لبنان هامشي، ليتبيّن أن اللبنانيين في حال وحّدوا مواقفهم برفض تحمّلهم تبعات الصفقة، يستطيعون إجهاض المشروع أو على الأقل التقليل من نسب نجاحه، إنطلاقاً من أنّ الضرر يصيب لبنان أكثر من غيره، فيدفع اللبنانيون الثمن الأغلى، خصوصاً بشأن نسف حق عودة اللاجئين الفلسطينيين من مخيّمات لبنان إلى أرضهم، مع ما يفرضه من توطين وبعثرة التوازن الطائفي اللبناني الذي يتأرجح على حافة الأزمات المفتوحة.
وإذا كانت إسرائيل تخشى من مقاومة لبنان الفعّالة والمجرّبة في كل المراحل، لكنها مطمئنّة إلى إنشغال اللبنانيين بأزماتهم الإقتصادية، وبنظامهم الطائفي، وبصراعهم السياسي المفتوح، والذي يشغلهم عن فعل أي شيء إتجاه ملف التوطين. يكفي أن يلوّح الغرب للبنانيين بتسهيل أمورهم الإقتصاديّة، لمنع إنهيار لبنان. هذا ما يعتقده العاملون على خط الصفقة الدولية.
تأتي الخطوات الأميركيّة التي تظهّرها محاولات دايفيد ساترفيلد لرسم الحدود بين اللبنانيين والإسرائيليين، والدغدغة بملفّ الغاز والنفط، من ضمن الرؤى الأميركيّة لتحييد لبنان عن مشاكسة “صفقة القرن”، لكن الأمر لن ينتهي عند الإعتراف بحق لبنان بإستثمار حقوله الغازيّة الجنوبيّة، بل يُطرح ملف التوطين للفلسطينيين في لبنان، كشرط إسرائيلي أساسي لإتمام الصفقة التي تروّج لها واشنطن.
ماذا فعل لبنان لمواجهة التوطين المطروح؟ لا شيء حتى الساعة، سوى الخطابات التي لا تُسمن عند الحاجة. لا بل يستمع لبنان الى وعود إقتصادية من دول أوروبية، ولا سيما بريطانيا وفرنسا، مقابل ما يُحكى عن “طرح توطين مئة ألف فلسطيني” في لبنان، وترحيل اللاجئين الباقين إلى دول أوروبية.
لا توحي كل التصرفات اللبنانية بأن هناك خلية لإدارة الأزمة المقبلة، لأن اللبنانيين مشغولون بتفاصيل أخرى، ولا توجد مثلاً ضغوطات مسيحيّة عبر الفاتيكان أو غيره، لمنع ضرب التوازن المسيحي–الإسلامي في لبنان، نتيجة التوطين المطروح. لم يعد يكترث الغرب لدور المسيحيين في لبنان، وقد سبق وبرهن عن ذلك في سوريا شمالاً وشرقاً.
وإذا كانت كل تلك المؤشرات توحي بأن الآتي مؤلم، يبقى وحده الأمل بالشعب الفلسطيني الذي يستطيع أن يُسقط أو يوافق على أيّ صفقة حول وجوده ومصيره.