يبدو المشهد العسكري مؤهلاً لتدشين صيف ساخن، يحمل معه تفجيراً غير مسبوق منذ «معركة حلب». الشرارة مندلعة فعلاً في «جيب إدلب»، وتتسع ميادين التصعيد المحتملة لتشمل أرياف حلب، من دون نفي احتمال ذهابها أبعد من ذلك. ثمة خيار آخر يُسابق التفجير، هو العودة إلى فرض «ستاتيكو» طويل، بما يتيح لواشنطن استكمال ترتيب الأوراق لربط ملفَّي «جيب إدلب» و«شرقيّ الفرات».
مرة أخرى، يقف الشمال السوري على مفترق طرق. ففيما تتوافر جميع عوامل التفجير للمشهد برمّته، يجري العمل وراء الكواليس على إعادة فرض «ستاتيكو» يُكبّل الجيش السوري وحلفاءه، ويعيد الحياة إلى توافقات «خفض التصعيد». وعلى رغم أن تلك التوافقات لم تحظَ بنعي رسمي بعد، فإنها في حسابات الميدان اليوم مجرّد حبر على ورق. وبدا جليّاً، في خلال الأسبوع المنصرم، حجم العمل الغربي على فرملة العملية البرية التي أطلقها الجيش في ريف حماة الشمالي، سعياً إلى تغيير معادلات الميدان، وإعادة رسم خريطة سيطرة جديدة. التحركات الغربية استنسخت سيناريو ما قبل «اتفاق سوتشي» الذي جمّد الجبهات شهوراً طويلة، من دون أن تلتزم أنقرة مضمونه. وفي شكل لافت، تزامن التصعيد الدبلوماسي الغربي مع عودة أنقرة إلى الأجواء في ما يخصّ معارك ريف حماة الشمالي، بعدما جاء موقفها في مطلع العمليات أشبه بـ«النأي بالنفس».
وبرغم الانكسار الذي مُنيت به «هيئة تحرير الشام/ النصرة» وحلفاؤها في كفرنبودة للمرة الثانية، فإن المعلومات الواردة من إدلب تكشف عن نجاح المجموعات في «التقاط الأنفاس»، واستمرار العمل على «رصّ الصفوف» تمهيداً لـ«مقاربة عسكرية مختلفة على مختلف الجبهات»، وفقاً لما تؤكده مصادر «الأخبار». وحتى الآن، لا يبدو أن القرار قد اتُّخذ في معسكر «النصرة» وحلفائها بفتح مزيد من الجبهات، ويُردّ ذلك إلى أن القرار في واقع الأمر يستلزم ضوءاً تركياً أخضر. وتشي المؤشرات بأن أنقرة تتعامل مع هذا الملف حتى الآن بوصفه «عامل ضغط وتهديد».
بدا لافتاً غياب «حرّاس الدين» و«أنصار الدين» عن الاجتماع مع الجولاني
وضمن هذا الإطار، تندرج المعلومات التي سُرِّبَت عن اجتماع ضمّ زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني، وعدداً من أبرز قادة المجموعات، وكان أقرب إلى «اجتماع بروتوكولي». تقول معلومات «الأخبار» إن ذلك الاجتماع «كان مجرد حلقة في سلسلة اجتماعات، وهو أشبه بجلسة تصفية للنفوس». أما «الثقل» الحقيقي، فقد كان من نصيب اجتماعات أخرى لم يجرِ تظهيرها إلى العلن، وضمّت «قادة مجموعات الثقل الميداني في معظم الفصائل، وعدداً من ضباط الارتباط الأتراك». وبدا لافتاً غياب قادة تنظيم «حرّاس الدين» و«جبهة أنصار الدين» عن الاجتماع «البروتوكولي» المذكور، برغم أن مسلحي المجموعتين يشاركون في معارك ريف حماة الشمالي. والأرجح أن تغييب «القاعديين» عن الصورة جاء مقصوداً، بغية تأطيرها في إطار «محلّي» خالص. وعلاوة على المجموعات «القاعديّة»، يسجل «الحزب الإسلامي التركستاني» حضوراً وازناً على جبهات ريفَي اللاذقية وحماة. ويُشكل العنصر المسلح (بمختلف الانتماءات) العمود الفقري للمجموعات المقاتلة على جبهات ريف اللاذقية الشمالي على وجه الخصوص. وعادت إلى التداول أخيراً «الآمال» بقرب تشكيل «جسم عسكري جامع» يعيد وصل ما انقطع من «حبال الود» بين مختلف المجموعات المسلحة، ويستحضر نموذج «جيش الفتح». وكان الخيار المذكور محور أخذ وردّ طويلين («الأخبار»، 1 شباط 2019)، قبل أن تُعلّق المحادثات في شأنه منذ آذار الماضي، على خلفية «تضارب الأولويات» بين الرعاة الإقليميين.
في الوقت الراهن، توحي تحشيدات المجموعات، وحركة التدشيم والإمداد، بأن جبهات ريفَي حلب الغربي والشمالي مرشّحة للانفجار، لتنضمّ إلى جبهتَي ريف حماة وريف اللاذقية، ما يعني في حال حدوثه الاشتعال الأكبر للمشهد العسكري منذ معركة حلب، مع فتح الأبواب أمام تصعيد غربي (عسكري انطلاقاً من ملف الأسلحة الكيميائية، وسياسي على أرضية الملف الانساني). أما البديل المقبول غربياً وتركياً، فإعادة إنعاش «توافقات خفض التصعيد». ولا يشكل «الستاتيكو» في حدّ ذاته هدفاً نهائياً للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، بل هو أقرب إلى كونه مجرّد وسيلة لكسب مزيد من الوقت قبل إنضاج «طبخة كبرى»، تربط ملفَّي الشمال والشرق بعضهما ببعض، وتعيد تموضع أنقرة في معادلات التحالفات الإقليمية والدولية. وبات من المسلّم به أن اللاعب التركي هو الأكثر تأثيراً بالمجموعات المسلّحة في مربّع «حلب، حماة، إدلب، اللاذقية»، وأن اضطراب العلاقات الأميركية ـــ التركية دفع أنقرة إلى زيادة التشبيك مع موسكو في ملفات كثيرة، ليس ملف «جيب إدلب» سوى تفصيل من تفصيلاتها.
في الصورة الأوسع، يحضر ملف «المنطقة الآمنة» التي تستميت أنقرة لتحويلها إلى أمر واقع. وتحتفظ واشنطن بقدرة كبيرة على التأثير في فرص نجاح المسعى التركي أو فشله، وهنا مربط الفرس في رهانات ربط ملفَّي «جيب إدلب» و«شرق الفرات»، وهي رهانات شكّلت على الدوام جزءاً من حوامل التعاطي التركي مع ملف إدلب (راجع «الأخبار» 15 آذار 2019). وتعكف واشنطن على هندسة صفقة بين أنقرة و«قوات سوريا الديمقراطية»، بما يتيح التخفف من عبء العداء بين الطرفين، ويُسهم في إعادة أنقرة مجدداً إلى الحضن الأميركي في شكل كامل، أقلّه في ما يتعلق بالملف السوري. وفي ظلّ العُقد الكثيرة التي تحتاج إلى التذليل قبل نجاح واشنطن في إمرار الصفقة بين «قسد» وأنقرة، تفرض الحاجة إلى شراء الوقت نفسها على واشنطن، وبالمثل على أنقرة، ما يقود إلى ضرورة الإبقاء على خريطة السيطرة حول «جيب إدلب» من دون تغييرات كبرى. على المقلب الآخر، خطت موسكو خطوة لافتة في تل رفعت (ريف حلب الشمالي)، عبر تعزيز حضورها العسكري في المنطقة التي يُشكل احتلالها هدفاً تركياً فائق الأهمية. وحتى الآن، تبدو الخطوة الروسية أشبه بردّ على السلوك التركي المستجدّ في معارك ريف حماة المستعرة. وتشير مصادر محلية إلى نشاط روسي متزايد على صعيد إعادة فتح خطوط التواصل مع عدد من القيادات الكردية من أبناء منطقة عفرين، فيما يواصل الجيش السوري مسار عملياته العسكرية، من دون أي مؤشرات على خفض محتمل لوتيرتها. وعلى العكس من ذلك، يبدو خيار «توسيع الجبهات» وارداً، ولا سيما إذا ما ذهبت «النصرة» وحلفاؤها نحو استفزازات جديدة على محاور ريف حلب الغربي.
إدلب: «نواة» عسكرية لـ«مجلس الشورى»
شهدت مدينة إدلب قبل أيام خطوة لافتة تمثّلت بإعلان تشكيل «سرايا المقاومة الشعبية»، وهي مجموعات تابعة إدارياً لـ«مجلس شورى الشمال المحرر». والأخير، هو «جسم توافقي» يضمّ ممثلين «مُنتخبين» عن كل المجموعات المسلّحة، والهيئات «الشرعية» في «جيب إدلب». وُلد «المجلس» في آذار الماضي في كنف «المؤتمر العام للثورة السورية»، وبدأ نشاطه الفعلي في شهر أيار الجاري. ويأتي تشكيل «سرايا المقاومة» سعياً إلى تحقيق جملة أهداف، على رأسها «تصحيح العلاقة بين المجتمع المحلي والمجموعات العسكرية». وتبدو الخطوة مؤهلة للتحول إلى نواة لـ«الجسم العسكري الجامع» الموعود، ولا سيما في ظل تأكيد «قادة السرايا» أنهم «على مسافة واحدة من جميع الفصائل».
صهيب عنجريني/ الأخبار