د. عصام نعمان
الصراع في العراق وعليه ليس في الشارع وحسب بل بين أهل السلطة ايضاً. في الشارع ، لم يكن للمتظاهرين قائد . في أروقة السلطة ثمة قادة كثر من دون ان يكون اولٌ بينهم. انها ظاهرة فريدة وغير مسبوقة .
المتظاهرون كان لهم دعاة لا قادة. كانت ثمة دعوة للتظاهر تداولتها وسائل التواصل الإجتماعي وفعلت فعلها بسرعة قياسية . الناشطون في الشارع اطلقوا شعاراً لافتاً : “لا للسياسيين ، لا للمعمَمين” . مطلقو الشعار لم يحددوا هوية معيّنة للسياسيين والمعمَمين المطلوب إستبعادهم . ذلك سمح للمراقب الحصيف بإستنتاج سريع: المتظاهرون يعارضون ، وربما يعادون، كل المسؤولين الناشطين في المشهد السياسي منذ احتلال اميركا للعراق سنة 2003.
ثمة دليل على صحة هذا الإستنتاج : لم يَسْلَم من التخريب مقرّ ايّ حزب او تنظيم مشارك في السلطة في مناطق عدّة من البلاد. ربما لهذا السبب امتنعت المرجعية الدينية العليا ممثلةً بآية الله العظمى السيد علي السيستاني في الايام الثلاثة الاولى للحراك الشعبي عن التعليق على ما رافقه من حوادث واحداث.
الى ذلك ثمة ظاهرات اخرى استوقفت المراقبين :
أكثف التظاهرات كانت في مدن الجنوب الشيعي الكبرى : البصرة والنجف وكربلاء والناصرية ، ناهيك عن الحلّة في الوسط.
امتناع التيار الصدري ، بقيادة السيد مقتدى الصدر ، عن المشاركة في التظاهرات . إلاّ ان الصدر طوّر قراره لاحقاً بإعلانه سحب كتلته، “سائرون” ، من البرلمان ومطالبته الحكومة بالإستقالة وإجراء انتخابات نيابية مبكرة .
معظم الاحزاب ايّد ، بادىء الأمر ، مطالب المتظاهرين إلاّ ان عمار الحكيم ، زعيم تيار الحكمة ، ورئيس الوزراء السابق حيدر العبادي (حزب الدعوة) سارعا لاحقاً الى تأييد مقتدى الصدر في دعوته الحكومة الى الاستقالة وإجراء انتخابات.
حتى رئيس الوزراء عادل عبد المهدي -ابن الناصرية- ايّد مطالب المتظاهرين ، وحرص على القول بأن البلاد تقف امام خيارين : “الدولة او اللادولة”. في مفهومه ، الدولةُ تعني الامن والنظام كما تعني ايضاً الفئة الحاكمة التي تقبض على ناصية السلطة.
معظم المتظاهرين وضعوا اهل النظام كلهم في سلة واحدة وطالبوا بإسقاطهم . أقسى التهم الموجهة اليهم واكثرها رواجاً هي الفساد والسطو على المال العام . لعل احداً لا يجادلهم بأن الفساد في العراق سلطان . ثمة تقارير رسمية تكشف انه ، منذ إسقاط نظام صدام حسين بفعل الإحتلال الاميركي ، ابتلع الفساد نحو 450 مليار دولار من الاموال العامة ، اي اربعة اضعاف ميزانية الدولة واكثر من ضعفّي الناتج المحلي الإجمالي للبلاد . مفكر وباحث عراقي يساري رصين من اهل النجف اكّد لي ان دخل العراق من النفط منذ 2004 فصاعداً تجاوز مبلغ تريليون (الف مليون) دولار، ومع ذلك لا اثر لمردود مجزٍ لهذا الدخل في ايٍّ من ميادين الصناعة او الزراعة او الخدمات العامة اذ ما زالت مناطق عدّة في البلاد بلا كهرباء وبلا مياه نظيفة للشرب ، وما زال اكثر من 30 في المئة من الشباب عاطلين عن العمل ، واكثر من 25 في المئة من العراقيين تحت خط الفقر.
اذ يتضح عداء الشعب العراقي ، في معظمه، لاميركا وما جرّته على البلاد منذ احتلالها من ويلات ، استوقفت المراقبين فورة الغضب التي تبدّت في تظاهراتٍ عمّت مدن الجنوب الشيعية ما يحمل على التساؤل عمّا اذا كانت هذه الغضبة تطال ايضاً ايران والاحزاب التي تدعم انصارها في السلطة . في هذا السياق ، أشار مراقبون الى أحزابٍ معادية لأميركا والسعودية اكدت ثبوت قيام موظفي السفارة الاميركية في بغداد بتحريض منظمات المجتمع المدني المدعومة من قبلها على المشاركة في التظاهرات واطلاق شعارات ضد ايران وضد حكومة عبد المهدي.
الحقيقة ان ثمة اختلافاً وانزعاجاً متبادلين بين اميركا وعادل عبد المهدي سببهما خطوات خمسة اعتبرتها واشنطن “استفزازية” اتخذها الرجل وحكومته في الآونة الأخيرة :
اولاها ، زيارته الصين منتصفَ الشهر الماضي وتوقيعه اتفاقات معها لبناء وتطوير بنى تحتية عراقية.
ثانيها ، تنديده بـ “صفقة القرن” واتهامه “اسرائيل” بالوقوف وراء استهداف عدد من مقار “الحشد الشعبي” خلال شهريّ تموز/يوليو وآب/ اغسطس الماضيين.
ثالثها ، قيامه بتوقيع اتفاقيات مع شركة “سيمنس” الالمانية لتطوير قطاع الطاقة الكهربائية، مستبعداً بذلك شركة “جنرال الكتريك” الاميركية .
رابعها ، توجهه الى روسيا لشراء منظومات دفاع جوي من طـراز S-400 بعد اتهامه “اسرائيل” بإستهداف مقار “الحشد الشعبي”.
خامسها ، قيامه بكسر اكبر المحظورات الاميركيـة وهو إفتتاح معبر القائم-البوكمال الحدودي مع سوريا ، معبّداً بذلك طريق طهران- بغداد-دمشق- بيروت ما يدعم لوجستياً قوى المقاومة العربية الناشطة ضد “اسرائيل”.
التطور الأهم تخلّي المرجعية الدينية العليا عن موقف الصمت . آية الله السيستاني أصدر بياناً أيّد فيه مطالب المتظاهرين المحقة ودعا الحكومة الى استجابتها بلا إبطاء ، مؤكداً على وجوب تأليف لجنة خاصة من خبراء اختصاصيين من خارج الحكومة وخارج محيط الاحزاب المؤيدة لها مهمتها درس الاوضاع الإقتصادية والإجتماعية وتحديد مفاصل الاصلاح الشامل ومتطلبات مكافحة الفساد. عادل عبد المهدي سارع الى تأييد موقف السيستاني ومطالبه والاشادة بمرجعيته كصمام امان للبلاد .
إذ حدّد السيستاني لأهل السلطة طريق الخروج من الأزمة التي عصفت بالبلاد وهددت الدولة الهشة بالإنهيار ، فإن عبد المهدي أدرك بلا شك أن ما حدث هو حصيلة سنوات طويلة من صراعات اهل السلطة انفسهم الذين عاد معظمهم بمواكبة الاميركيين مع احتلال البلاد ، وان تهافتهم على إحتلاب مواردها وتقاسم خيراتها أنهك بنيتها الاجتماعية ومؤسساتها الاقتصادية ، وأغرى قوى خارجية متعددة بإبتزازها واتخاذها ساحة لتصفية حسابات اقليمية ودولية . ولا يفوت عبد المهدي ايضاً الادراك بأن القوتيّن الابرز في الصراع داخل العراق وفي الاقليم هما الولايات المتحدة وايران ، وان تداعيات الصراع بينهما وتكالب اهل السلطة على المال والنفوذ وضع البلاد امام خيارات متصادمة ، وان شراسة ادارة ترامب ، ومن ورائها “اسرائيل” ، في مواجهة ايران مداورةً بمحاصرتها اقتصادياً ، ومباشرةً بالضرب في عمق حلفائها الاقربين (سوريا والمقاومات اللبنانية والفلسطينية والعراقية) دفع الى واجهة الصراع خياراً اضافياً لعله الاكثر إلحاحاً وأهمية هو وجوب بناء عراق بلا اميركا بعدما تمكّن العراقيون الاحرار، او كادوا، من تحرير العراق من الإرهاب والإرهابيين.
اجل ، المطلوب من احرار العراق اعتماد خيارين متكاملين : الدولة القوية الديمقراطية ، وعراق متحرر من اميركا المستبطنة دائماً عدوانية صهيونية فاجرة ، ومتحرر من مخططات ومطامع اقليمية ماثلة.